منذ بداية ولعي بالدراسات الشرعية واللغوية وأنا أصرف اهتمامًا زائدًا للتراث الأندلسي، يصحبني في ذلك عاطفة جارفة لتنشق نسمات الفردوس المفقود، وحرص على خدمة جزء كبير ومهم من تراث أمتنا الإسلامية، فلا جرم إذْ وجدتني «أندلسي الهوى» في كثير من المجالات العلمية والثقافية والتي من بينها الجانب الفقهي؛ حيث اعتمدت أصول المدرسة الظاهرية التي رفع رايتها مولانا الإمام أبو محمد ابن حزم القرطبي من خلال كتبه الثلاثة «الإحكام في أصول الأحكام» وهو كتاب في تحرير أصول المدرسة الظاهرية بطريقة لم يسبقْ لها في الكتابات الأصولية حتى من المذاهب الأخرى والتي تنافسه في زعامة هذا الفن الإسلامي البديع، ثم كتابه الثاني وهو «الدرة في الاعتقاد» وهو كتيب لخص فيه مهمات باب التوحيد وما يرتبط به من مسائل الإيمان، وأخيرًا كتابه الفذ «المحلى بالآثار شرح المجلى بالاختصار» الموسوعة الفقهية الضخمة التي لا يضاهيها في الفرعيات إلا عدد قليل جدًا من الموسوعات الفقهية الكبرى كـ«التمهيد» لابن عبد البر القرطبي و«المغني» لابن قدامة الحنبلي.

أثناء ذلك؛ كنت أرصد اعتمادًا كبيرًا من ابن حزم وصاحبه الحافظ المحدث ابن عبد البر لسرد الحديث من طريق أحد العلماء التي لمعت في سماء الرواية الأندلسية آنذاك، هذا العالم هو الإمام قاسم بن أصبغ البياني القرطبي (ولد سنة: 244هـ/ توفي سنة: 340هـ)، والبياني نسبةً إلى بيانة وهي ضاحية من ضواحي مدينة قرطبة التي كانت حينها عاصمة ثقافية واقتصادية وإحدى الحواضر الإسلامية الكبرى، لاحظت أن الاعتماد على قاسم البياني يدل بصورة مباشرة أن هذه الشخصية كانت ولا بد مصدرًا أساسيًا من مصادر إيراد الحديث النبوي والآثار، فكنت على هامش قراءاتي لكتب الأندلسيين أقيد ما يقع بين يدي من مروياته وأضبط مع كل حديث أو خبر أو أثر المصدر الذي نقلته منه حتى يتسنى لي الرجوع إليه في حالة التفرغ لتصحيحه وضبطه، كان ذلك في نهاية مرحلة الليسانس يعني من أواخر عام 2010 حتى 2011، بعد ذلك وجدت أن المرويات التي كتبتها بيدي قد بلغت رقمًا غير متوقع، حيث وصل مجمل ما رصدته من أحاديث الإمام قاسم بن أصبغ نحو 3800 رواية تتوزع على الأحاديث النبوية وآثار الصحابة والتابعين وبعض القصص والأبيات الشعرية ونحوها، أجريت دراسةً خفيفةً لترتيب هذه المرويات على طريقة كتب السنة مثل صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وحتى كتاب «الأحكام» للإمام عبد الحق الإشبيلي نزيل مدينة بجاية حيث اعتنى كثيرًا بتبويب كتابه هذا وضبط عناوين الأبواب والفصول بمرجعية فقهية رائعة جدًا، حاولت أن أسلك هذا المسلك الذي أعترف أنه صعب غايةً، ولكني حاولت، فظهر أن مرويات قاسم بن أصبغ – فعلًا – تمثل كتابًا منظمًا يشمل غالب الأبواب الفقهية التي اعتاد علماؤنا إيرادها في كتبهم التي هي المراجع الكبرى للفقه الإسلامي بكل مذاهبه.

بات لدي كتاب متكامل مادته هي مرويات الإمام قاسم بن أصبغ البياني الذي صار كأنه أستاذ لي وصرت أعامله معاملة الطالب لشيخه احترامًا وعنايةً بما روى وخدمةً لعلومه التي نقلها لنا، لكن الذي جعلني أتأخر في نشر هذا الكتاب – فقط – هو صعوبة التعامل مع كثير من دور النشر المحلية التي تطلب مبالغ كبيرة نوعًا ما لنشر هذا النوع من الأبحاث، وإلا فالكتاب لو نشر لكان مرجعًا مهمًا من مراجع الحديث النبوي الموثق بالأسانيد، علمًا أن المادة التي احتواها تتميز بخصائص تجعل من الكتاب إضافة قيمة للمكتبة الإسلامية وخدمةً لطلبة العلوم الشرعية والمهتمين بالدراسات الأندلسية خصوصًا.

فمما يتميز به هذا الكتاب:

· كونه يمثل خدمةً فريدةً من نوعها لأحد أعلام الأندلس الذي لم يلق أي اهتمام تقريبًا في البحوث والدراسات الأكاديمية، علمًا أن كل مؤلفاته تعرضت للضياع.

· أنه يحتوي على مجموعة كبيرة من الأسانيد النادرة، خاصة تلك التي يرويها قاسم من طريق شيوخه المغاربة والأندلسيين أو شيوخ شيوخه، وأذكر على سبيل المثال: محمد بن وضاح القرطبي، محمد بن يحيى بن يحيى الليثي، محمد بن عبد السلام الخشني القرطبي، بكر بن حماد التيهرتي الجزائري، معاوية بن صالح القيرواني، سحنون بن سعيد القيرواني، وغيرهم كثير.

· علو كثير من أسانيده، والعلو مصطلح من مصطلحات علم الحديث النبوي يقصد به «رواية الحديث من طريق شيخ قديم، بحيث يكون عدد رجال السند بين المؤلف وبين النبي قليلًا نسبيًا»، وقد التقى قاسم في رحلته العلمية ببعض قدامى أهل الحديث مثل ابن أبي الدنيا وموسى بن إسماعيل الترمذي وغيرهما.

· أنه احتوى كثيرًا من النصوص الحديثية النادرة أو التي توجد عند غيره من المحدثين بأسانيد ضعيفة.

· احتواؤه على نصوص لغوية مهمة، فقد تتلمذ قاسم بن أصبغ على يدي علماء اللغة الكبار ومنهم أبو سعيد السكري.

ولا يمكن حصر مميزات هذا البحث الذي أعده مفخرةً لي لأنه بمثابة الخدمة الجليلة لأحد علماء أمتنا الذين ضاعت مؤلفاتهم بسبب الحروب والتناحرات الداخلية وقلة الاهتمام الرسمي والشعبي بالتراث حتى في وقتنا هذا الذي قدمت فيه التكنولوجيا خدمة كبيرة جدًا لمن أراد تحقيق التراث والعناية بمؤلفات أجدادنا، أكتب هذا وأنا أتمنى من كل من يقرأ مقالتي هذه أن يجعل في نصب عينيه أن هدمة التراث هي «قضية أمن قومي» بكل ما تحمله العبارة من رهبة وهيبة، فمن شارك في هذا العمل الجليل فقد شارك في حماية الأمة تمامًا كالجندي الذي يحمل السلاح مرابطًا في تخوم البلاد، فحماية الحضارة والثقافة هي الأساس لحماية التراب.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد