لماذا سعت الإدارة الأمريكية إلى تفكيك التحالف الروسي التركي وتجميد آثاره العسكرية والاقتصادية؟ وكيف نجحت في هذا عن طريق حصار قطر؟ ولماذا استجاب أردوغان لتلك الضغوط؟ وكيف رد الجانب الروسي على هذا التدخل؟
هل فشل الحصار على قطر؟
يبدو للمتابع أن حصار قطر الذي قامت به دول الخليج يونيو (حزيران) 2017 حول قطر برًا وبحرًا وجوًا قد فشل في تحقيق أهدافه بتطويع حكومة قطر وإثنائها عن دعم حركة حماس وجماعة الإخوان وإغلاق قناة الجزيرة، إلا أن المدقق في الأمور يكتشف أن الحصار قد فشل في تلك الأهداف، بينما نجح في تحقيق أهداف أخرى، وأن الهدف الرئيس للإدارة الأمريكية كان الضغط على قطر لزيادة إنتاج الغاز المسال كبديل لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وأيضًا الضغط علي تركيا من أجل منع روسيا من استخدام الأراضي التركية في استكمال شبكة الأنابيب الروسية التي تمد أوروبا بـ 40% من احتياجاتها، في سبيل تقليل النفوذ الاقتصادي والسياسي الروسي على القارة العجوز، وفي سبيل ذلك جرى الضغط على قطر بكل قوة حتى تستطيع أمريكا التفاوض مع أردوغان.
بداية القصة
سبقت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في يوليو (تموز) 2016 محاولات حصار تركيا جغرافيا من الجنوب عن طريق دعم الأكراد الانفصاليين في الشمال السوري وربطهم بأكراد العراق وتركيا لاحقًا، وفشلت تلك المحاولات بسبب التدخل العسكري التركي (عملية درع الفرات) المدعومة من روسيا، ونتج عن هذا أثر عكسي حيث استقل القرار التركي إلى حد كبير بعيدًا عن حلف الناتو، واتجهت إلى التعاون العسكري مع روسيا، حيث تمكنت تركيا من التعاقد على شراء نظام دفاع جوي (اس 400) من الجانب الروسي وهو ما يعني تدعيم الجيش التركي بنظام دفاع جوي متطور، خصوصًا بعد تباطؤ الناتو في إمداد الجيش التركي بنظام دفاع جوي متطور، ويعتبر الاستقلال العسكري التركي أكثر ما يقلق الناتو والاتحاد الأوروبي؛ كون تركيا دولة ذات حكومة إسلامية مستقلة وتتميز بموقع جيوسياسي متميز.
على الجانب الاقتصادي كان أكثر ما يقلق الإدارة الأمريكية هو تحالف بوتين وأردوغان لتحقيق تحالف اقتصادي مستقل يمكنه من التحكم في شرايين الغاز التي تمد أوروبا بالغاز الطبيعي عن طريق السيل التركي.
حصار قطر والهدف تركيا
لذلك لجأت الإدارة الأمريكية إلى آخر المحاولات، وهو حصار حلفاء تركيا، فأوعزت إلى حلفائها في الخليج ومصر بحصار مشدد لقطر، الأمر الذي جر تركيا إلى تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك مع قطر، وإرسال خمسة آلاف جندي إلى القاعدة العسكرية في قطر، وهو ما كان متوقعًا وقام بدعم قطر بجسر جوي من المواد الغذائية والاحتياجات اليومية.
على الجانب الآخر أظهر التحالف القطري التركي استجابته لتلك للضغوط، حيث أعلنت قطر عزمها زيادة إنتاج الغاز المسال من 77 مليون طن سنويًا إلى 100 مليون طن سنويًا، وهو ما يعني توفر المزيد من الغاز في السوق العالمية وتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، حيث يساهم 13 خط غاز من روسيا في توفير احتياج 40% من احتياج الغاز الأوروبي.
وذلك في سبيل فتح مجالات أمام الشركات الأمريكية والأوروبية للتحكم في مصادر الغاز، وتكثير البدائل الأوروبية للغاز الروسي؛ لمنع إستخدام الغاز كسلاح للقيصر الروسي.
حيث إن تطوير إنتاج الغاز يتطلب ضخ 45 مليار دولار كاستثمارات، ويتطلب وجود شركاء عالميين، مثل شل (بريطانية هولندية) وأكسون موبيل الأمريكية (وسيمنز الألمانية التي دخلت سوق الطاقة مؤخرًا) وهو ما دفع حكومات تلك الدول إلى إبداء مرونة تجاه وجهة النظر القطرية في الحصار ودفع الإدارة الأمريكية إلى تغيير وجهة نظرها في الحصار برمته إلى النقيض.
الغرض الثاني من الحصار هو محاولة ضم تركيا مرة أخرى إلى التحالف الغربي وتفكيك التحالف الروسي التركي، وذلك لمنع استخدام روسيا لموقع تركيا الاستراتيجي في تمرير أنبوب الغاز (السيل التركي) إلى أوروبا،ومن ثم تكون لروسيا اليد العليا في الاتحاد الأوروبي.
إدارة أردوغان للأزمة
من وجهة النظر التركية فإن جفاء العلاقات مع إدارة أوباما في آخر عام لها (2016) مكن تركيا من تحسين علاقاتها مع روسيا وسمح لها بتنسيق العمليات في شمال سوريا عن طريق عمية درع الفرات،الأمر الذي أضعف محاولات الأكراد في إنشاء كيان مستقل في شمال سوريا، وقامت تركيا بالتعاون مع إيران وروسيا في إدارة عملية وقف إطلاق النار داخل سوريا، كما وقعت تركيا إتفاقية مع روسيا تسمح بتوريد نظام دفاعي صاروخي متطور (إس 400)، وأخيرًا تم توقيع اتفاقية السيل التركي الذي يمد جنوب أوروبا بالغاز الروسي مرورًا بالأناضول، وبذلك فتركيا قد حققت أهدافها في تحسين العلاقات مع روسيا والبحث عن حلفاء بديلين في ظل التحفز الأوروبي الأمريكي ضدها.
على الجانب الأخر رأي أردوغان أن التوافق مع مع الإدارة الأمريكية الجديدة سيمكن من رفع الحصار عن قطر، وسيضعف التحالف الخليجي، وهو ما أثمر عن تدريبات عسكرية تركية أمريكية قطرية مشتركة في قطر.
هذا التوازن في علاقات تركيا مع كل من روسيا وأمريكا سيمكن تركيا من توفر العديد من أوراق الضغط علي أوروبا وأمريكا، حيث تخشي أوروبا وأمريكا من التوافق الروسي التركي لما يمثله من تهديد استراتيجي على خطوط الطاقة المغذية للقارة العجوز؛ مما يجعل محاولة إزعاج الحكومة التركية مسألة محفوفة بالمخاطر.
إحكام الخناق الأمريكي على روسيا
بالتوازي مع ضخ قطر للمزيد من الغاز تعمل الإدارة الأمريكية علي منع استمار تدفق المزيد من الغاز الروسي إلى شمال أوروبا؛ حيث أقر مجلس الشيوخ الأمريكي (أواخر يوليو 2017) عقوبات على روسيا بأغلبية 98 عضوا ومعارضة عضوين فقط، حيث ينص القرار على مواصلة بذل الجهود علنًا لعرقلة تنفيذ مشروع خط أنابيب نقل الغاز الروسي السيل الشمالي- 2، نظرا لتأثيره الضار على أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وتطوير سوق الغاز في أوكرانيا وأوروبا الوسطى والشرقية.، في إطار الجهود الرامية إلي تقليل النفوذ الروسي علي أوروبا ومنعها من التحكم بإمدادات الطاقة، حيث أقر مجلس الشيوخ الأمريكي هذا القانون بأغلبية ساحقة، بالرغم من معارضة ترامب له.
الرد الروسي الغاضب
هذه العقوبات أغضبت الجانب الروسي فقام بالإعلان عن نيته طرد 755 دبلوماسيًا أمريكا، كما قام بوتين بإبعاد تركيا من مفاوضات التهدئة السورية في الغوطة الشرقية، وقام بنقل مفاوضات التهدئة من الإستانة في كازاخستان إلى القاهرة بين جيش الإسلام (المقرب من الحكومة السعودية) وبين الحكومة السورية كرد مباشر علي التقارب الأمريكي التركي المعلن.
رد فعل التحالف الخليجي علي فشل حصار قطر
كان يأمل قادة التحالف العربي بالفوز بمكانة أكبر بعد تنفيذ تعليمات البيت الأبيض ومحاصرة قطر وتضييق الحصار عليها، إلا أنهم فوجئوا بالإعلان عن تدريبات عسكرية أمريكية تركية في قطر؛ مما شكل صدمة شديدة لهم، وبعد اكتشافهم المتاخر أنهم كانوا مجرد طعم للعبة سياسية كبرى، الأمر الذي دفهم إلى استعراض مصطنع للقوة تمثل في إعادة إفتتاح قاعدة الحمام العسكرية أو ما أطلق عليها بقاعدة محمد نجيب العسكرية في شمال غرب مصر، بمشاركة أطراف التحالف العربي المتمثل في السيسي وبن زايد وحفتر قائد انقلاب ليبيا.
مكاسب قطر وتركيا من فشل الحصارالخليجي
كشف هذا الحصار الغطاء عن الحرب الخفية الذي تمارسه الأسر الحاكمة في الخليج وأصبح العداء علني مما وضع الأسر الحاكمة في وضع سيئ أمام شعوبها؛ مما دفعهم للتعاطف مع قطر وتركيا، ومن جهة أخري كشفت قطر عن قوتها الناعمة المتمثلة في قدرتها علي إنتاج أكبر قدر من الغاز الطبيعي الذي يعتبر أهم مصدر من مصادر الطاقة النظيفة والتي تفضله أوروبا عن نظيره من البترول لدواع بيئية، الأمر الذي عزز الموقف السياسي القوي لحكومة قطر على حساب الأسر الخليجية التي تدور في الفلك الأمريكي.
بالرغم من أن الحصار كان يتضمن إخضاع تركيا للمعادلة الجديدة، إلا أن براعة أردوغان في عدم التصادم مع دول الخليج أو أمريكا مكنه من الخروج بأقل الخسائر، بل وربما يمكننا القول إن التقارب مع أمريكا لم يفسد علاقته مع روسيا، لتفهم بوتين حقيقة الحرب التي يقودها الغرب ضده، يمكننا القول أن الجانب التركي تمكن من الرجوع تدريجيا لمعادلة صفر مشاكل مع الدول الإقليمية والقوي العالمية، فمن شأن هذا التحالف أن يهدئ التوتر بين تركيا ودول أوروبا بالنظر إلى المكاسب الأوروبية المتوقعة من هذا الاتفاق، وبعد انتهاء الحرب السورية تقريبًا قلت أهمية التحالف مع روسيا وأصبحت إعادة العلاقات مع الغرب مطلبًا ملحًا لإعادة التوازن في العلاقات مع القوي الإقليمية.
مكاسب أمريكا وأوروبا
خرجت أمريكا منتصرة في الجانب الاقتصادي بسبب تدفق مئات المليارات من الدولارات من دول الخليج إلى السوق الأمريكي في صورة تعاقدات أسلحة من السعودية والإمارات، كما شملت المكاسب تعاقدات لتطوير حقول الغاز القطرية لصالح شركات أمريكية مثل إكسون موبيل والتي قد تصل إلى 45 مليار دولار.
أما سياسيًا فقد تمكنت من الضغط على قطر من أجل رفع إنتاج الغاز بصورة كبيرة لتوفير بدائل عملية للغاز الروسي مؤقتًا حتى تستكمل مشاريع الغاز الأمريكية الضخمة التي من المتوقع أن تصل إنتاجها إلى 300 مليون طن غاز مسال في عام 2024، في إطار إيجاد بدائع للغاز الروسي ومنع القيصر الروسي من السيطرة الاقتصادية على أوروبا.
بينما مكاسب أوروبا لم تكن كبيرة لأنها تضررت من العقوبات التي أقرها الكونجرس على شركات الغاز الأوروبية التي ستدخل في تحالف إنشاء خط أنابيب السيل الشمالي القادم من روسيا إلى شمال أوروبا، كما أن الساسة الأوروبيين استاؤوا كثيرًا من تصرفات ترامب الهمجية التي فرضت حصار على دولة صغيرة من أجل حل مشكلة اقتصادية، بالتزامن أيضًا مع انسحاب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ في الشهر الماضي، الأمر الذي أثار استياء كل من ميركل وماكرون من العنجهية الأمريكية في التعامل مع القرارات المصرية التي تواجه الدول العالم.
خسائر دول الحصار
خليجيًا كبر حجم الخلاف بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، وبين الأسر الحاكمة في الإمارات، حيث سحب المستثمرون القطريون 11 مليار دولارمن دبي نتيجة الحصار المفروض على قطر ومنع القطريين من دخول الإمارات، كما أدى تهديد المستثمرين لدبي بالعزوف عن الاستثمار في جبل على بعد أن فقدت مصداقيتها كسوق حرة أدى إلى إحراج شديد لمحمد بن راشد حاكم إمارة دبي، وبدأ أفول نجم الإمارات كلاعب سياسي رئيس بالمنطقة، وبرز انزعاج حكام الإمارات الأخرى على الأفعال الصبيانية التي يقوم بها بن زايد، خصوصًا بعد توتر علاقتهم سابقًا مع جارتهم عمان إثر تدخل لمحمد بن زايد في شؤون الحكم هناك قبل ثلاث سنوات، وأعلن التلفزيون العماني حينها عن ضبط شبكة تابعة لأمن الدولة الإماراتي تعبث بشؤن الحكم العماني؛ مما وضح حكام الإمارات في موقف محرج للمرة الثانية، وربما نسمع قريبًا عن محاولة انفصال إحدى الإمارات من تحت حكم آل نهيان.
بعد انتهاء تلك الأزمة التي أظهرت سوءات أنظمة الحكم الخليجية، هل ستنتقل شرارة الثورة إلى دول الخليج وتطيح بأنظمة الحكم، هذا ما تجيب عنه الأيام القادمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست