موقفُ الإسلام المعتدل، يمكن إدراكُه من خلال حقيقة أنَّ الإسلام يجمع بين العِلم والدّين؛ فلا إفراط ولا تفريط، فلا صُوفية بحتة، ولا مادية بحتَة؛ فمن جانب الدينيين اتُّهم الإِِسلامُ بأنه أكثر ارتباطًا بالعبادات والتأملات بعيدًا عن الواقع كما يجب، ومن جانب العلم اتّهم بأنّه ينطوي على عناصر غيبية، وأنّه متكيّف مع الحياة الدنيا، وفي الحقيقة يوجد إسلامٌ واحد فحسب.
فالقرآن حياةٌ متكاملة، خاصّة أنه يشتمل على عناصِر من السياسة والاقتِصاد، وكيفية التعامل في العلاقات، والاجتماع، والتصرف المالي، وتوجيهات القيادة العسكرية.
لذلك بين الماديين، والعقلانيين، والمتصوِّفين، لا يمكن حبسه في عنصرٍ معيَّن من عناصِر الحياة، فهو منهجٌ متكامِل.
فالقرآن يؤدِّي رسَالةً للبشرية، ونحن قصرناه عل النّزعة الدينية، والرقية الشرعية؛ فمثلما كتبتُ في مقالٍ سابقٍ أنَّ القرآن يعمل على إنشاء إنسانٍ متكامِل من الجوانب الأربعة (العقل، والقلب، والنفس، والبدن)، فإنّه يعمل على إنشاء مجتمعٍ متكامِل سياسيًّا واقتصاديًّا، واجتماعيًّا.
فالقرآن لا يحوِي الشَّرائع والشَّعائر فقط، بل يحوِي إيجابيات الرأسمالية، وإيجابيات الاشتراكية، في هندسة العلاقات الاجتماعية.
قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ» (الأعراف 172)
فالآية تقُوم بإسقاطِ نظريات الإلحاد، وتؤكّد أن الإنسان هو عنصرٌ روحي؛ وليس عنصرًا بيولوجيًّا أو اجتماعيًّا، كما يرى علماء المادة؛ يقول على عزت بيجوفيتش: « إنَّ الإنسان هو عنصر روحي، ولا يمكن أن يوجد إلاّ بفعل الخلقِ الإلهي، ومن ثَم، فإذا لم يكن هناك إلهٌ؛ فلن يُوجد إنسان، وإذا لم يوجد إنسان فلن توجد ثقافة، إنما حاجات، وما يشبع هذه الحاجات حضارة فحسب».
ومن خلال قول بيجوفيتش، أقول إنّه إذا قمنا بإنكار روحانية الانسان، فسنصل إلى النتيجة التي يروّج لها الملحدون؛ وهي وجوده من المادة أو الصّدفة، وبالتالي خدمة ثقافة الاستهلاك والمادية، عوض خدمة كرامة وحقوق الإنسان فعلًا.
يبدو لي من خلال طرح بيجوفيتش أنّ الدين والعلم والثقافة والحضارة مترابطة فيما بينها؛ فإذا فصلنا جزءًا عن آخر، اختلّ نظام الفهم الشَّامل لكينونة الإنسان؛ لذلك كانت أول آية من القرآن العظيم «اقرأ باسم ربك الذي خلق» (العلق 1)، وذلك تمجيد للعلم وفي إعمال العقل للوُصُول إلى معرفةِ الله، وفيه آياتٌ تتعلق بالدين منها: «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران 85)، بمعنى أنّ العقلانية والمادية وحدها دون تديُّن تجعلك تدور في حلقة الهامستر دون أن تتقدَّم في الحقيقة إلى معرفة ربك حق المعرفة، وأنت تظن أنك على الطريق المستقيم بما أنك عالمٌ مثقَّف.
والثقافة والحضارة عبّر عنهما القرآن الكريم في العديد من الآيات: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13)
وبالتالي عند فصل الثقافة والحضارة عن الدين، وربطهما بالعلم فقط ينشأ الغرور الإنساني والتكبر والتحدِّي الإلهي، وبذلك وجب الهلاك. قال تعالى:
«فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ» (فصلت 15)
«فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (الأعراف 77)
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (البقرة 170)، من هذه الآية يمكنني أن أقول إن ثقافة الآباء إذا لم تتصل بحقيقة التدين؛ فغالبًا ستؤدي إلى الضياع في ظلمات يصعب الخروج منها، وتوجب العقاب أيضًا.
فالعلم وحده لا يؤدِّي إلى الإنسانية الحقّة، ولا يؤدي إلى الحضارة الحقَّة فعلًا، والدين وحده لا يؤدي إلى التقدم؛ وبالتالي فإنهما مترابطان مجتمعان.
بين السماء والأرض.
كيف يمكن جعل الانسان يتخلَّص من تخبطه بين مادية الأرض وروحانية السماء؟
القرآن ليس مجرد طريقة حياة فقط؛ فالقرآن منهاج لتنظيم الكون. لقد وجد الإسلام قبل الانسان، وهو كما قرّر القرآن بوضوح المبدأ الذي خلق من أجله في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات 56).
ومن ثَم نجد في القرآن تطابق الإنسان مع الإسلام ككائن روحي، وليس مثلما يراه الماديون كشيءٍ.
يقول بيجوفيتش: «..فكما أن الإنسان هو وحدة الروح والجسد، فإن الإسلام وحدة بين الدين والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإنّ النظام الاجتماعي يمكن بدوره أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق».
وهذه هي أهم الركائز التي يعمل القرآن على ترسِيخها، ولم يستطع أصحاب الإلحاد والمذهب المادي أن يستوعبوها إلى اليوم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
القرآن