عادة ما يتعامل النقّاد مع مفهوم أدبي ما، وفق رؤى ومبادئ نقدية تشبه إلى حدّ كبير قاعدة البيانات، بآليات عديدة لعلّ أهمّها الزمان والمكان والبنية الفنّية والجنس الأدبي… إلخ. وعندما أطلّت الحداثة بشقّيها الاقتصادي والثقافي، اقتصر تعامل النقّاد معها في إطار زمكانيّ فقط، أو ما يشبه الحالة الحضارية المسيطر عليها من قبل دول ما وراء البحار، ونعني أمريكا وغرب أوروبا بالأساس. ومن ضمن نتاجات الأدب الحداثي، نجد ما اصطلح على تسميته بالأدب الساخر، أو أدب البارونيا، وقد علا نجم الكاتب المغربي الحسين قيسامي بوصفه واحدًا ممّن تبنّوا هذا النهج في الكتابة. وفي هذا المقال سنسعى إلى تسليط الضوء على الأدب الساخر من خلال ثنائية الأدب والتهريج.

في البداية، يقول جاك داريدا: استعمل من المصطلحات ما تشاء لكن بشرط تعريفها. وفي ما يتعلّق بتعريف الأدب الساخر، نستطيع الجزم بأنّ هناك أزمةً في المصطلح والمفهوم، فالترجمة العربية الرائجة، وهي الأدب الساخر، لا تعبر دائمًا عن روح المكتوب أو تطلّعات الكاتب، وتلغي فروقات مضمونية مهمة بين نتاجات عالمية وأدباء عالميين. فمثلًا على سبيل الذكر لا الحصر، أعتقد أنّه من الصعوبة بمكان أن نسمي ما يكتبه الأديب التركي الكبير عزيز نيسين أدبًا ساخرًا هكذا بهذه البساطة، ونكتفي بإضفاء مادّة الضحك على كتاباته؛ بل ونطلق مفهوم السخرية مع ذات الاسم الجامع للأدب على ذلك الحزن الإبداعي المرير الذي كتبه محمد الماغوط، وكذلك الحال على البعض من قصص تشيخوف أو معطف غوغول. ناهيك أنّ التسمية ذاتها نسقطها على بعض مسرحيات وقصص جورج برنارد شو الفلسفية، ومن قبلها على طرائف أبي عثمان الجاحظ حول البخلاء، أو مقامات الحريري لأبي العلاء القالي. من ناحيته أعاد الكاتب المغربي الحسين قيسامي فتح هذا السجال منذ حوالي ثلاثة أشهر من الآن، عندما أصدر مجموعته الساخرة مرآة تبحث عن هوية، فكان الطرح هو الآتي: الكتابة الساخرة هل هي أدب أم تهريج؟

ولمحاولة مقاربة هذا الطرح سنحاول النفاذ إلى مدى مشروعية الكتابة الساخرة من خلال الفكرة والقالب في مجموعة «مرآة تبحث عن هوية»، ونعني بالفكرة المتعة العقلية التي تصنعها النكتة الأدبية، أما القالب فهو الأسلوب الذي صيغت به هذه الفكرة، ولو شئنا تبسيط هذه الصورة لقلنا الإثنينية الميتافيزيقية أي الروح والجسد. والكاتب الحسين قيسامي عمد إلى إخراج الضحكة من قلب المعاناة، فكأن الملهاة والمأساة يكمنان في جسد واحد، لقد عبر القيسامي حدود المفهوم الفلكلوري للفكاهة، أو ما يعرف بـ«ستاند آب كوميدي»؛ إذ تمكّن بحرفية لا لبس فيها من إضمار الهزل في الجدّ نحو المثل الهنغاري الشهير: ليس الخير دائمًا في الجدّ.

فبين الفكرة والقالب تمكّن القيسامي من إقصاء شبهة التهريج عن الكتابة الساخرة، ذلك أنّه استخدم في مجموعته مرآة تبحث عن هوية اللغة العربية الفصحى الجادّة، والتي يتحدّثها جميع العرب جنبًا إلى جنب مع اللهجة العامية الدارجة في المغرب العربي، والمغرب الأقصى خصوصًا. علاوة على دخول الرطانة من ألفاظ وصور مستقاة من البيئة الأوروبية، ولنا في قصيدته «الخنساء في باريس» خير مثال على ذلك، مذكّرًا إيّانا بالكاتب الإنجليزي الكبير جون هوكام فرير، وأيضًا الكاتب الكبير لورد بايرون صاحب رائعة دون جوان، أو مقاتل طواحين الهواء الذي تأثر كثيرًا بالأدب الإيطالي أيّما تأثّر، خاصةً بروحه الساخرة في تلك الحقبة.

في الختام، يقول الكاتب الأردني الساخر يوسف غيشان: إنّ من يكتب في الأدب الساخر محظوظ جدًّا، ذلك أنّه يرسم البسمة على شفاه الناس، فهو يحظى بشعبية كبيرة بعيدًا عن أزمة النخبة والكتابة النخبوية. لكن هذا يضعنا امام سؤال مركزي غاية في الأهمية: هل يمكن اعتبار الشعبية مقياسًا أدبيًّا؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد