يجمع دارسو الألسنيات العامة عبر الزمن على أن المادة اللغوية من أكثر الآليات الهيكلية والفنية تداولًا في إنتاج الفنون واستهلاكها، كون اللغة بشقيها الدال والمدلول تعتبر الآلية التواصلية التي تتصف بالتلازم مع الحياة، وتتفاعل معها؛ مما يجعل النتاجات الفنية والأدبية التي تكتب بها أكثر استجابة للتطور، وأكثر طواعية لانطلاقات جديدة تؤهلها لصنع منعطفات أدبية كلما ضاق النوع السائد بالتعبير عن توتر الحياة الجديدة ومتطلباتها، فالبحث عن أنواع فنية متطورة تعبر عن أزمة الإنسان وعن معاناته ومشاعره في صميم الأزمات التي يعيشها أمر مشروع؛ بل ومطلوب أصلًا.
وهو في بحثه عما يخفف الأزمة يدرك أن فنَ أيِ شعب من الشعوب ليس ملكًا له، ولا يجب أن يكون قاصرًا على حدود ذلك الشعب؛ لأن عظمة الفنون أنها لا تعيش إلا في فضاءات الحرية، وأن الإبداع لا تحده حدود ولا قيود، وأن سمته التواصل، فهو ملك الإنسانية كلها، ولا سيما حين يكون هذا الفن بعيدًا عن التعصب والتعقيد. من رحم هذه الصورة الزمنية والأدبية ولدت قصيدة الهايكو في اليابان، أو ما يعرف بقصيدة الحكمة، في ظروف خاصة كان أساسها الحرب مع الصين، لكن بانفتاحها على العالم، صارت قصيدة الهايكو جنسًا أدبيًّا مستقلًا بذاته.
في معرض حديثنا عن قصيدة الهايكو أردنا في البداية رصد بعض التعريفات لها من خلال أبناء الهايكو أنفسهم من الشعراء العرب، إذ يقول الشاعر عبد الكريم كاصد: الهايكو ليست قصيدة فكر أو معنى بالمفهوم الشائع للمعاني، وإنما هي باعثة على الفكر أو الإحساس العميق. فيما اعتبرت الشاعرة بشرى البستاني قصيدة الهايكو مشهدًا يبدو ساكنًا لكنه يختزن طاقة حركية شعريتها في اللبس الكامن بين الصمت الظاهر، والحركية المضمرة.
ولم تقتصر محاولات تعريف الهايكو على الشعراء فقط، إذ يقول رئيس المنتدى العربي علي الدوعاجي للفكر والأدب، القاص عماد عبد الكريم: إن فلسفة الهايكو الشعرية في حاضرنا الأدبي هي ضرب من حياة الثقافة العربية المربكة، وهي رد يشوبه الاحتجاج على ذلك الصخب، بهدوئه ودعوته إلى التأمل والحث على الصمت الحضاري. ولعل ما ذهب إليه القاص عماد عبد الكريم من اعتماد الصمت سمةً لقصيدة الهايكو، يعتبر جناحًا رئيسيًّا تطير به قصيدة الهايكو في سماء الشعر.
فسرعة الصمت التي تغلب على قصائدها القصيرة (خمسة أبيات في الغالب) لم تمنع الصورة الشعرية والبنية الفنية وجمالية اللغة من التسرب إلى جسد الهايكو على صغره، فبين البيت والبيتين والثلاث، تتولد جمالية الهدوء والعودة إلى الصمت بعد دفقة شعرية قوية تشبه الشهاب الذي يلوح في السماء بقوة، وعلى الرغم من المدة الزمنية القصيرة فهو يترك أثرًا في الزمان والمكان. فسرعة الصمت في قصيدة الهايكو لا تخضع لباروماتر شعري معين، فمعيار شعرية القصيدة هو الأهم، وليس انتماؤها إلى هذا الشكل أو ذاك، أو البحث عن هوية شعرية لها، فداخل صرح الهايكو، كما بناه الشعراء القدامى والمحدثون اليابانيون، لم يعد لتلك القواعد والخصائص القديمة المتوارثة منذ أيام كتاب الهايكو الكبار في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، انطلاقًا من كونه خاضعًا لديباجة ما اصطلح على تسميته بقصيدة الحلقات التي قد تمتد إلى 100 حلقة (أي 100 بيت مقسمة إلى قصائد قصيرة).
وحتى على المستوى التاريخي التداولي الذي بادر بإطلاق اسم هوكو على تلك القصائد، وصولًا إلى استغلال اسم الهايكو في القرن التاسع عشر على يد الشاعر والناقد الياباني الكبير ماسا أوكي شيكي. فالصمت في الهايكو يقوم على تفاصيل البيئة المحيطة بحالة الإنسان من جوع وحرب وحب وجريمة وقلق… إلخ؛ إذ يمكن اعتبار قصيدة الهايكو نوعًا من التأمل الروحي لحالة تنقل الصورة، أو إحساس الشاعر بدون توظيفها لحكمه أو تحليله الشخصي. فبناء الصمت بين السرعة والصورة الشعرية في قصيدة الهايكو قام على التنقل بين مسارين: مسار الزمن، ومسار اللغة.
في الختام يقول الناقد المغربي سعيد يقطين في معرض حديثه عن قصائد الهايكو: قصائد الهايكو سُميت بالشعر غير المكتمل؛ لأنه يتطلب من القراء إكمال القصيدة في قلوبهم. لهذا من المهم إظهار شيء ما حقيقي في هذه اللحظة للقراء عن المشاعر التي استحضرها الشاعر في تلك اللحظة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست