من السمات الأساسية للكتابة الواقعية، أنّها تسجّل الظواهر الاجتماعية من عادات وأخلاق ومبادئ. وتخضع آلية التسجيل دائمًا لثنائية الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، السعادة والشقاء… إلخ، وكما أنّ الكتابة الرومانسية تسبر غور الإنسان بمعنى حقيقة الإنسان في بعد إنساني ممتدّ، فإنّ الكتابة الواقعية الفنيّة تبحث عن حقيقة ما دخل إنسان ما في محيط معيّن دون الانزلاق نحو الشمولية الإنسانية. وفي هذا الإطار تتنزّل كتابات الدكتور حمد حاجّي بين الواقعية الكلاسيكية والواقعية الاشتراكية، وصولًا إلى الواقعية القذرة.

في البداية، وجب علينا أن نشير إلى أنّه في المقام الأوّل لا يمكن أن نُخضع نتاجات مدرسة الواقعية القذرة لبارومتر زمني؛ ذلك لأن الواقعية القذرة ليست صرعة، أول صيحة موضة ولا هي وليدة الأمس أو اليوم، بل نشير إلى أنّ مجموعة من الكتاب والنقّاد، وخاصّة الأمريكيين، قد حفروا هويتها بإصرار وثبات لتكون مدرسة متكاملة الأركان، وكأنما حفرت في قلب الصخرة التي يدفعها سيزيف صعودًا ونزولًا. والدكتور حمد حاجّي سعى في كتاباته، وخاصّة الثلاثيات منها على إبراز مفهوم المأساة، مأساة الواقعية القذرة، أو بالأحرى مأساتنا نحن معها، لقد عمد في مستهل المادّة السردية دائمًا إلى إبراز بواطن الوجع والتيه في عالمنا العربي والإنساني عمومًا، الحرب والجوع والفقر والإرهاب، إنّ قذارة الواقعية عنده قد قدمت لنا من خلال التعريف بالنقص بأكثر مما قدمت عبر التعريف بالكمال، فقد حرص الدكتور حمد حاجي في ثلاثياته على أن يوضح ما ليس عليه العالم الموجود من رؤى الناس المتطلّعة نحو المنشود، بعيدًا عن فلسفة المدينة الأفلاطونية الفاضلة، وأشار أيضًا من خلال الأسلوب الفنّي القائم على المجاز اللغوي بين الدال والمدلول إلى بعث روح مفارقة للواقعية القذرة في تقاليدها المعروفة بين الواقع واللا واقع، وهي مفارقة لكل ما يكتب في زمننا اليوم بعبارة الآن وهنا، وهنا تحديدًا أيضًا.

إن لغة السرد الواقعي عند حمد حاجي ليست بطولية، ولا شامخة، ولا ملحمية كاذبة، لأنّها بعيدة عن الطموحات الملحمية كما رأينا عند هوميروس وسول بيلو مثلًا، وفي الوقت ذاته لا يمكن وصف لغة حمد حاجي بأنها تجريبية 100%. ورفضنا لوصفها بتجريبية بحتة ليس من حيث التحديد بالسلب، بل من جهة النزوع نحو الاستبطان السيكولوجي الذي يبرزه أبطال الدكتور في أقاصيصه. إنه أسلوب فنّي للسرد على نطاق مختلف ومؤتلف، مكرس للتفاصيل المحلية والعابرة لحدود الجغرافيا، العناصر العاطفية للقلب والوجدان، ناهيك عن القلاقل الصغيرة في اللغة والايماء والإيحاء والرمز، ومن المناسب تمامًا عند حمد حاجي أن الشكل الأول للسرد يتمثل في القصة القصيرة، وأنه على نحو ملموس تمامًا جزء من حركة إحياء القصة القصيرة الحديثة في الواقعية القذرة، ولكن هذه الأقاصيص ليست بعيدة عن البعد العجائبي، بعيدة عن التجميل والتزويق، لا أثاث فيها او ديكور لفظي أو معرفي يُسقط السرد في بانوراما من المثل المزعجة. إن لغة السرد عند حمد حاجّي تراجيديات تدور في أماكن رخيصة الإيجار حول أناس يشاهدون التليفزيون نهارًا ويسكرون ليلًا، ويقرأون الروايات الرومانسية الرخيصة ويباضعون النساء، ويستمعون إلى الموسيقى الريفية وموسيقى الراب، ويلبسون الملابس المستعملة، مومسات وربات بيوت ونادلات في مقاه على جوانب الطرق، إنّ الواقعية عند حاجّي تستمد قذارتها لا من قذارة الواقع كما يعتقد البعض، بل من قذارة الإنسان الذي عجز عن تغيير الواقع.

في الختام، يجب أن نسيطر على مبدأ القذارة في الكتابة الواقعية، فليس كلّ الناس أرار، وليس كلّ الواقع رديء. بل وجب أن نتعامل مع واقعنا -وهذا ليس من باب الكتابة الوعظية- بتجربة فرويد مع الكأس النصف ممتلئ والنصف فارغ، فلا نقول إنّه فارغ ولا ممتلئ؛ بل تنسيب الأمور.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد