آفة المنظرين

نحن في أزمة فجرت في أنفسنا منابعَ من التساؤلات، والتي نجحت في تحطيم جدار المنطق، وكادت أن تشعل بداخلنا نيرانًا وقودها الحماسة الزائفة والفكر الواهم، ورمادها الاستنتاجات الهلامية المغلفة بالمفردات الرنانة، التي تخترق المشاعر، وتعبث بالقيم والثوابت، دون أن تمر على العقل، أو تتلمس وعاءه، وخلال هذا المقال والذي هو  تحت عنوان، ربما يصلح أن يكون شعارا للمرحلة، وهو «تساؤلات وليدة الأزمة»، سنستعرض واحدًا ضمن حفنة من التساؤلات التي حملتها جائحة كورونا؛ لتضعها في طريقنا ولكنها – في حقيقة الأمر – نتاج لأزمة فكرية عتيقة خلفها مجتمع أهوج، وليست نتاجًا لأزمة بعينها.

فمنذ أن بدأت جائحة كورونا وتأكدنا من أنها تحولت إلى أزمة، باتت تتصدر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتصريحات وبيانات المسؤلين، وعناوين الأخبار؛ وبدأت حالة غير مبررة تأخذ طريقها في الانتشار، هذه الحالة هي ليست من خلق كورونا، ولكنها انعكاس صريح ضمني بلغة علم النفس لشكل من أشكال الاضطرابات السلوكية التي تأخذ قوالب عدة، وتحتاج دائمًا إلى حافز ومثير، هذه الحوافز والمثيرات تتفاوت وتتباين بتغير المناخ العام للمجتمع، أو ما يعرف بالشأن العام، فإما أن يتميز هذا المناخ بالصخب والإثارة، وإما أن يتميز بالهدوء النسبي فتأخذ هذه السلوكيات منحى آخر مختلفًا وليس صريحًا، هذا السلوك الذي أقصده هو التنظير «فآفة حارتنا التنظير»، وهذه الآفة الخطيرة التي تكاد تطيح كل ما له معنى في حياتنا، تقودنا إلى هذا التساؤل  وهو من يصلح فينا أن يكون منظِّرًا؟! أو السؤال بطريقة أخرى من الذي أوهمنا بأن بيننا من هو بعيد عن المسئولية؟! فبهذا المنهج الذي هو صنيعة يدينا – لا أحد غيرنا – لن يكون هناك بيننا ناج من الوصم أو التقليل. فإذا كنا قد أشرنا إلى وجوب وجود حافز ومثير لأي شكل من أشكال الاضطراب السلوكي، والذي هو بالأساس ناتج عن اضطراب فكري ونفسي، فالحافز هذه المرة كان جائحة كورونا، وذلك على سبيل الصدفة، فإن كان كورونا فيروسًا مستجدًّا، فكورونا العقل في مجتمعنا ليس بمستجد أو مستحدث على الإطلاق، فهو أصيل ومتأصل في أذهاننا ووجداننا منذ عقود، سواء فكرًا أو تعبيرًا.

وهذا كان الحافز، أما المثير هنا فكان وباء أشد ضراوة مما يعيشه العالم الآن، فالوباء الحالي ما زال حديثًا وأدركناه جميعًا بسرعة شديدة وأخذنا جميع الاحتياطات والإجراءات الاحترازية، دولًا وشعوبًا، تفاديًا له وعملًا على انحساره، أما الوباء الآخر فلم ندركه إلا بعد فوات الأوان، بل ربما هناك بيننا من لم يدركه بعد؛ إذ إننا لم ننتبه لضرورة الأخذ بعين الاعتبار حفنة من الإجراءات للحد من انتشاره؛ هذا الوباء هو منصات التواصل الاجتماعي وما يصحبها من زخم معلوماتي سريع الانتشار والتفاعل وبطيء الإصلاح، كثير التأثير، وقليل الدقة.

التنظير هنا أخذ أشكالًا مختلفة ودوافع عدة، فمنذ أن بدأت الأزمة في الصين وبعدها أخذت في التسلل إلى دول أوروبا، هنا بدأ السباق واشتد ضراوة؛ فكان الوصم الأول لكل الشعوب التي تواجه الأزمة وتعالت أصوات النغمات الزائفة التي يتمايل عليها دائمًا المنافقون والمدعون، فمنهم من رجح أن هذه قطعًا هي «لعنة مسلمي الإيجور»، المشكوك أساسًا في طائفية قضيتهم وضرورة تدويلها في إطار الاضطهاد الديني، وإن كان كذلك فهو ليس بالطبع مسئولية شعب بأكمله، يشكل أكثر من ثلث الكوكب.

ثم خرجنا نوعًا ما من هذا الجدال الذي لم يكن له أن ينتهي إلا بتعايشنا مع الأزمة نفسها، وتذوقنا من كأس الرعب والألم، وبعد أن بدأت تطاردنا الأشباح نفسها لم يكن الأمر كفيلًا بإمهالنا من قبل هؤلاء المدعين، حتى نستجمع قوانا من جديد لمواجهة الواقع الأليم، حتى أخذوا يتمايلون مجددًا ولكن على نغمات جديدة، لم يكن صداها أكثر خفوتًا هذه المرة، بل ربما كانت أشد وقعًا على الآذان، وهي نغمة «احذروا.. هذه إشارات لغضب الله علينا»، ولم يدركوا ما يفتعلونه من افتراءات على الله جل وعلا؛ فالوصم هذه المرة كان لأمة برمتها، وكان الوصم بأن الله قد أغلق أبواب حرمه ومساجده وكنائسه في وجوهنا، وأننا جميعًا قد طردنا من رحمته، ولم نر واحدًا منهم يرى في هذا ابتلاء من الله، ربما يكون حبًّا في عباده، ودعوة لعودتهم إليه، ولكن ما الذي علينا فعله؟! و«آفة حارتنا التنظير».

المحطة الأخرى وليست الأخيرة من التنظير كان وصمًا جديدًا متبادلًا، وكأنه تراشق بين من يعمل في المنظومة الطبية ومن لاينتمي إليها، فأخذ قلة ممن ينتمون للمنظومة الطبية بوصم جميع من لا ينتمون إليها بأن لا قيمة لهم، وأن عليهم أن يتبرؤا من أنفسهم لأنهم لم يلتحقوا بكلية الطب، وكأن الأزمة هي التي كشفت الحقائق، في حين أن تلك الأزمة ليست إلا نقطة في بئر لا ينضب من التاريخ الإنساني الذي شهد كوارث وفواجع كبرى، وتحديات كثيرة كانت محركًا لطوائف وفئات مختلفة من الشعوب كي يقفوا استعدادًا على جبهة المواجهة، فبين حروب تصدرها مقاتلون، وأزمات تصدرها اقتصاديون وسياسيون وإداريون، ومفاوضات تصدرها دبلوماسيون، ومعتركات فكرية تصدرها مثقفون وباحثون ومفكرون على مر التاريخ والعصور، وغيرها من الشواهد المتباينة على الزخم الحضاري والبشري، لم ير التاريخ الإنساني شكلًا من أشكال التحيز لأي من هذه الفئات مثلما يشهده اليوم، فقمة الغباء أن يختزل مسلسل الأزمات الذي شهدها الإنسان على مر عصوره في مشهد واحد، أو تختزل قصة الحضارة في فصل واحد فقط من فصولها وكأنه فصلها الأخير، فالعالم يتشكل ويتغير ومن يتصدر المشهد اليوم ربما يتوارى غدًا؛ ليحل محله جديد.

أما الفئة الأخرى التي تلقي بالتهم جزافًا وتماطل في الاعتراف بفضل الأطباء علينا اليوم وقبل ذلك، وما زالت في حالة من النكران، فهؤلاء لا يستحقون منا أن نوجه لهم أي لوم على ضآلة عقولهم؛ لأن النكران هو سمة الجهلاء وعلاج الجاهل اجتنابه، ولكن سنقول لهم جملة وتفصيلًا إذا لم تستح فافعل ما تريد، ولكن أريد أن أذكرك بأنه في الوقت الذي تقضيه الآن ممسكًا بهاتفك لتنصب المشانق وتقاضي الأطباء على تقصيرهم، فهم يصارعون الموت، ويواجهون الآلام وأنت أقصى ما تواجهه من أزمات حالة الاكتئاب الذي سببها لك الحظر الوقائي.

ربما هؤلاء السالف ذكرهم ليسوا القوالب الوحيدة للمنظرين والمسفسطين، لكنهم ومع الأسف هم الأكثر خطورة نظرًا إلى كثرتهم وتصدرهم أعيننا، ونظرًا إلى ما يتسببون فيه من فتن واحباطات تخرجنا عن إطار المنطق والتروي، وتبعث بنا إلى حيث الفضاء المظلم لا ننتظر فيه ولو بصيصًا من الأمل؛ والأمل هو وقود الإنسان ومحركه حتى يستطيع أن ينجز ويعيش ويحب ويرحم، فإن أدركنا كل هذه المدركات سنعزف عن التنظير، انتهى المقال ولكن لم تنته الآفات بعد، ولم تنضب التساؤلات؛ فكل محطة من محطات هذا المجتمع تولد لدينا تساؤلًا مستجدًّا، ولكنه في حقيقة الأمر صنيعة آفة عتيقة. 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد