لقد أعلنت بعبارات لا تحتمل الجدل ولا التأويل عدم ترشحي للانتخابات الرئاسيه المقبله مكتفيًا بما قدمته للوطن لأكثر من 60 عامًا. أعلنت تمسكي بذلك وأعلنت تمسكًا مماثلًا وبذات القدر بالمضي في النهوض بمسئوليتي في حماية الدستور ومصالح الشعب حتى يتم تسليم السلطة والمسؤولية لمن يختاره الناخبون في انتخابات سبتمبر (أيلول) المقبل في انتخابات حرة نزيهة يتوفر لها ضمانات الحرية والنزاهة.
هكذا كان يستجدي الرئيس المخلوع حسني مبارك رضا شعبه في واحدة من أكثر أيام القاهره اشتعالًا وصخبًا يدعوهم فيها إلى القبول بإصلاحات تدريجية تفضي إلى تحول ديمقراطي سلمي ومنظم للسلطة.
لا أدري لماذا على نحو محدد خطر على خلدي تلك الكلمات التي وردت في خطاب مبارك الأخير قبيل تنحيته عن السلطة بيوم واحد في العاشر من فبراير (شباط) 2011.
ذلك الخطاب الذي انطوي على وعود قد قطعها على نفسه مبارك شملت عزمه عدم الترشح لعهدة جديدة، وإفساحه المجال لوجوه جديدة يختار من بينها المصريين ما يمثل إرادتهم ويحقق آمالهم وطموحاتهم.
ما زلت أتذكر تلك الليلة التي ألقى فيها مبارك خطابه كنت لم أبلغ حينها السادسة عشرة من العمر، كنت عاكفًا أمام شاشات التلفاز كغيري من أبناء وطني أتابع الأحداث عن كثب، لا أنكر لذة تلك اللحظات وصعوبتها على نحو متزامن كانت لحظات درامية من الطراز الأول وديناميكية كذلك تتواتر الأحداث وتتقلب بهيستريا شديدة، كنت متأثرًا بمثالية اللحظة، كان لساني يهتف بصمت وقلبي ينبض بقوه وبصوت جهوري يردد شعارات الشباب القابع في الساحات والميادين، لم أكن حينها قد تفتق وعيي بما هو لازم لاستيعاب وتفهم جلل اللحظة وأن التحول من السلطوية إلى الديمقراطية محفوف بالمخاطر قد ينشأ عن ذلك التحول تبعات قاسيه على الشباب أنفسهم، وأن الأوضاع قد تسوء وتنجرف إلى منحدرات تفوق في أثرها ما شحذ همم الشباب على النهوض للمطالبه بالإصلاح.
بعد نحو أكثر من ثمانية أعوام كاملة على الثورة وفي سياق تحليلي لمصر بعد تلك الأعوام وجدت نفسي أمام سؤال ذاتي أطرحه على نفسي قبل طرحه على القارئ: ماذا لو اكتفى الشباب المنتفض بما ورد من وعود في خطاب العاشر من فبراير؟
ماذا لو تبنى الشباب رؤية استراتيجية منظمة يجري بمقتضاها تغيير تدريجي وتحول ديمقراطي أكثر سلمية مما انجرف إليه الوضع قبل التوجه إلى انتخابات مايو (أيار)، ويونيو (حزيران) 2012 من مواجهات دموية يطفو عليها الطابع العنيف بين قوى الثورة والسلطة الانتقالية حينذاك؟
ماذا لو انصاع الشباب حينها إلى الدعوات المنادية بحوار وطني شامل بين كافة ألوان الطيف السياسي المصري يتمخض عنه ضمانات للوعود التي قطع بها مبارك على نفسه بشكل يحصنها من العدول عنها؟ ماذا لو شرع الشباب في حوار يضمن انتخابات حرة نزيهة بإشراف أطراف محايدة؟ ماذا لو أثر الشباب أن يحقن دماءه عبر آليات سياسيه لا تخول لمن بيده القوة فرصة التنكيل والفتك بهم؟
على صعيد آخر قد ينظر البعض من زاوية أخرى ويطرح ماذا أدراك أن مبارك كان سيشرع في إنفاذ وعوده ولا يتنصل منها؟
تكمن إجابة ومعالجة هذا التساؤل في الحصول على ضمانات ناجزة وقاطعة تضمن إنفاذ تلك الوعود عبر تشكيل لجان لمتابعة سلوك وممارسات النظام في حينها ومدى تقدمه في تحقيق وعوده، علاوة على إصلاحات فورية يكون في أعلى رأسها إلغاء المادة 179سيئة السمعة المتعلقة بقانون الطوارئ الذي يجرم الحريات الأساسية، ويتنافى مع حقوق الإنسان وتنازل الرئيس عن صلاحياته لرئيس وزراء ذي خلفية مدنية تكنوقراطية وذات استقلالية عليها توافق وطني من كافة القوى. يمهد رئيس الوزراء الطريق أمام تحول سياسي سلس للسلطة، يمنح سلطة إصدار المراسيم الدستورية بما يكفل تحقيق مطالب الشارع آنذاك.
أرى ورؤى المؤمن صادقة أن المصريين حينها كانوا قادرين على تخطي تلك التحديات إذا ما سلكوا ذلك الطريق إذ كانوا في أعلى درجة من التماسك والاتحاد والروح المفعمة بالعزيمة تلك الروح التي تربى عليها المصريون جيلًا بعد جيل.
بيت القصيد كانت البلاد ستتلافى تكبد فاتورة باهظة حاسب عليها المصريون كاش في المائة و12 شهرًا الماضية من دمائهم الزكية، ومن ميزانيتهم التي تتداعى الآن نتيجه لحرق نحو أكثر من 36 مليار دولار أثناء الموجات المتتالية للثورة، وهو الأمر الذي تبعه ترد محسوس وتداعي الاقتصاد من تعاظم الدين العام، وقلة الإنتاجية جراء استمرارية الحراك وغياب الاستقرار في الشارع.
لا شك أنه كان من الضروري أن يتحلى الشباب وقتها بالتمهل والتريس وعدم الانسياق وراء الانفعالات غير المحسوبة، وأن يدركوا صعوبة اللحظة وأن السياسة تقوم في المقام الأول على تحقيق التوازنات.
كان يتعين على الشباب أن يقفوا وهلة للتأمل والتحليل والمقارنة بين إمكاناتهم وما بحوذتهم من أدوات وآليات يمكن المناورة من خلالها وبين معطيات الواقع بما يحويه من قوى على الأرض فاعله وقادرة بما تستأثر به من أدوات القوة والسحق على احتواء هذا الحراك وإجهاضه حتى وإن حقق هذا الحراك مبغاه مبدئيًا.
القول الفصل في طرح تلك الأطروحات والتساؤلات ليس البكاء على اللبن المسكوب، بل إحداث عملية نقد وتحليل للحالة المصرية ما بعد الثورة ودور الشباب في معادلة القوى حتى نتعلم كشباب من الأخطاء وأن لا نقع في مغبتها في المستقبل.
رغم ما حدث وما طرأ وما حل من انتكاسات في فترة الثماني سنوات الماضية لم ولن يساورني الشك قط أن ثمة مستقبل مشرق بإمكان الشباب المصري تدشينه ورسمه لبلاده ما دامت الروح المصرية حاضرة ويعمل المصريون بروح الفريق الواحد لا الفرقاء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد