هل القرآن حمال أوجه؟

القرآن ليس حمال أوجه، بمعنى: أن ترد فيه الآية حاملة حكمًا معينًا، وتأتي آية أخرى تخالفها في نفس المعنى ونفس الحكم، (ترى فيه الرأي ونقيضه أو إثبات المبدأ وعكسه). فهذا الفهم خاطئ وغير صحيح، فالله قال: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت. فالقرآن مُحكمة آياته ثم فصلت، أي: بُيّنت. وقال: الله نزل أحسن الحديث كتابًا.

فكلام الله عز وجل أحسن الكلام وأحسن الحديث، نُخاطب الناس به، نجعله مقدمًا على أي كلام.. لأنه أحسن الكلام. فكيف يقول قائل لا تخاطبوا الناس بالقرآن؟

مع افتراض حسن النية لمن قال هذا من المسلمين فإن المقصود من قولهم القرآن حمال أوجه هـو أن فيه بعض الآيات التي وضعت لعدة معان، والمعنى المراد من هذه الآيات هو ما يدل عليه السياق.

فسياق الآية هو الذي يحدد معنى الكلمة التي لها أكثر من مدلول، وهذا ليس بعجيب، فهو من أساليب العربية.

وإن كان الأخير صحيحًا ؛ إلا أنه لا يصح على إطلاقه (أعني: القرآن حمال أوجه)، بل بعض الكلمات في القرآن وليس القرآن ككل.

فالقرآن «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير».

أحكمت آياته، فجاءت قوية البناء، دقيقة الدلالة، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم. متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب، ومنسقة ذات نظام واحد. ثم فصلت. فهي مقسمة وفق أغراضها، مبوبة وفق موضوعاتها، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه.

أما من أحكمها، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق؟ فهو الله سبحانه، وليس الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لدن حكيم خبير».

يحكم الكتاب عن حكمة، ويفصله عن خبرة.. هكذا جاءت من لدنه، على النحو الذي أنزل على الرسول، لا تغيير فيها ولا تبديل.

إن الطاعنين في هذا الإسلام لا يأتونه من مصدره المُحكم المهيمن على غيره وهو القرآن، إنهم أدركوا عجزهم أمامه فذهبوا إلى الأحاديث الموضوعة والمكذوبة يحتجون بها، ويحتجون على الإسلام بأفعال المسلمين غير الملتزمين!

ولو أنهم جاءوا إلى القرآن بقلب الباحث عن الحق لوصلوا إلى أسراره وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا.

إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نزل عليه القرآن فكانت سنته هي تطبيقه للقرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف القرآن كما يظن البعض من بعض الأحاديث الضعيفة المنسوبة إليه! وإنما النبي كان مطبقًا للقرآن، وما جاء مخالفًا ومناقضًا لهذا القرآن فهو الباطل الذي لم يفعله النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يأمر به.. ولو نُسب اليه.

وإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو من بيَّن كيفية الصلاة والحج ومقدار الزكاة.. ولم يتكلم القرآن عنها.. فهل هذا باطل؟

قلنا: هذا فهم غير سديد عن الله وعن رسول الله، فالقرآن فرض الصلاة والحج والزكاة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.

وقال تعالي: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.

والنبي صلى الله عليه وسلم فصّل هذا، وبين هذه العبادات للناس لقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.

فالنبي مُبين مفصل لكتاب الله.

والصلاة والحج والزكاة.. ذكرها القرآن إجمالًا والنبي فصلها، فلا إشكال هنا أصلًا؛ بل إن النبي متبع للقران مبينا عمليًا الكيفية للمجمل.

ويجب أن ننبه على أنه لا خلاف في السنة الفعلية أبدا بين المسلمين، إنما الخلاف واقع بين السنة القولية (الأحاديث المنسوبة للنبي)، فالحق فيها قبولها إن لم تخالف ما قرره القرآن ومقاصده العليّة – كما هو منهج كثير من الأصولين – فإن خالفت كانت من الأكاذيب على النبي والراوي لها بشر يصيب ويخطئ. وهي قليلة ليست بالكثيرة في كتب السنن.

ويقول الشيخ الفقيه محمد أبو زهرة في هذا الصدد: ولا نتهجم بذلك على حديث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو الحكمة كلها كما قال ذلك الإمام الشافعي، فقد فسر الحكمة في قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ…)، بأن الحكمة هي سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا رددنا منها ما يخالف القرآن فنحن نرد ما يجعلها فوق القرآن، وبالأحرى يكون ذلك تمحيصًا للسنة، وتبيينًا لصحيحها من سقيمها، إن عبارات القرآن التي هي نص في دلالتها، ومعانيها، فيها تنزيه لرسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – وتنزيه للبعث المحمدي، فإنما ندفع الريب عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولا نتهجم عليه ولا على حكمته، كتلك الآثار التي توهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سُحِرَ، وكتلك الأخبار الكاذبة التي تقول إن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – قال عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. إنا نرد هذا وأشباهه تنزيها للرسالة المحمدية الإلهية، مهما كان راويها أهلًا للثقة، ونعدها عليه، وليس بمنزه عن الخطأ والنسيان، ودخول الغلط عليه، وأخشى أن أقول إن من يعتقد ذلك يكون كأهل الجاهلية الذين قالوا: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا).. وإذا كان اليهود عجزوا عجزًا مطلقًا عن أن يعبثوا بالقرآن كما عبثوا بغيره، فإنهم أتوه من ناحية تفسيره، ولكن ذلك لَا يَمَسُه، بل يَمَسُّ العقول التي لَا تمحِّص ولا تدرك، ولا تحكم بقرآن، ومقاييس العقل؛ ولذلك بقي النبع الإلهي الصافي يدركه من يتأمل ما أحيط به فينبذ الزيف، ويدرك الجوهر الصافي.

فنحن لا نرد سنة رسول الله؛ إنما نرد الدخيل عليها.

وهذا الدخيل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سماته: تناقضه مع الأصول الثابتة الواضحة التي قررها الإسلام، ومخالفته العقل الصريح، ومخالفته الأوثق منه (القرآن).

كما أن أئمة الحديث إذا وجدوا معنى الحديث مناقضا للثابت في القرآن، أو لغيره من الأحاديث الأثبت والأشهر، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال، حكموا بأنه حديث منكر شاذ لا يصح، ولو كان إسناده صحيحًا.

ولا يظن أننا نتهم رواة الأحاديث بالكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهم أئمة أفنوا أعمارهم في خدمة الإسلام والمسلمين، إنما نظن فيهم خيرًا، ولكن نعتقد أن ما خالف القرآن مما هو منسوب للرسول – صلى الله عليه وسلم – في كتب الأحاديث إنما هو « مدسوس » على رواة الأحاديث وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل الباطل لم ولن يسكينوا عن مُحاربة المسلمين في عقائدهم وفي كتبهم.. ونحمد الله أن حفظ لنا القرآن الكريم «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

ولا يعني هذا أيضًا إنكار كل حديث يوحي ظاهره مخالفة القرآن دون البحث والتدقيق والمعرفة الصحيحة السليمة لمعنى الحديث، ومع مراعاة الزمان والمكان، فلا ينكر الأحاديث جملة بدون دراستها إلا جاهل بالقرآن، فلا بد من دراسة الأحاديث قبل الحكم عليها.

وأكثر الأحاديث التي أخذها قليلي العلم على أنها تخالف القرآن هي أحاديث صحيحة، لكن المشكلة في تلك العقول التي تحكم على الأحاديث بظاهرها ولا تراعي الزمان والمكان.

فمثلًا حديث من بدل دينه فاقتلوه عام مطلق، والعام يرجع للمقيد في الأحاديث، وقيده حديث عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ ‏- رضى الله عنه ‏- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ‏- صلى الله عليه وسلم ‏- «لَا يَحِلُّ دَمُ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: اَلثَّيِّبُ اَلزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، اَلْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وهذا الحديث شرحه حديث رواه ابو داوود عن عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ ‏- صلى الله عليه وسلم ‏- قَالَ: «لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ اَلْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنْ اَلْأَرْضِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.‏

فاتضح أن القتل – حد الردة – ليس لمجرد ترك الإسلام، والله يقول: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…).

إنما لمحاربة أهله، وإلا لما لزم أن يقول الرسول في الحديث الأول: (المفارق للجماعة) وكان اكتفى بقوله: (التارك لدينه) وسكت، فتبين أن القتل هو لمن ترك الإسلام ليحاربه. وحماية النفس والدفاع عنها حق إنساني مكفول للجميع.

وقال تعالي: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ، اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) ، وقال: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يُشرٍع من تلقاء نفسه ولا يأتي بشيء مخالف للقرآن، بل الله عز وجل هو الـــمُــشرع لرسوله «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ».

ويبقى القرأن مهيمنا على كل شيء، وبه العدل وفيه الهداية «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ».

ومما يدل على أن القرآن أصل هذا الدين الذي وضع القواعد والأصول والتشريعات: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة، ثم إباحته بكتابتها. وقد حاول علماء الحديث التوفيق بين النهي والإباحة، فقالوا: أن النهي كان لكي لا ينشغل الناس بالسنة عن القرآن، كما أن النهي كان لخشية اختلاط السنة بالقرآن… وهذا يدل على أن القرآن هو الأصل والأساس في هذا الدين حيثُ نــهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة لكي لا ينشغل الناس بالسنة عن القرآن، وهذا يدل على أهمية القرآن، ولو أن السنة أصلًا مع القرآن في وضع القواعد والأحكام العامة الثابتة لما نهى النبي عن كتابتها أبدًا.

وقد ذهب كثير من علماء المسلمين إلى الأخذ بالأحاديث التي ظاهرها التعارض والتناقض، ولكنهم استعملوا مع مثل هذه الأحاديث منهج التأويل، فردوا أمثال هذه النصوص للمحكم في الدين مؤولين إياها.. وهم هنا كمن نفى الأحاديث بسبب ظن التعارض والتناقض لأن كلاهما متفق على نفي النقص. فمن هذه الناحية اتفاق بين المسلمين على التنزية ونفي التناقض، وإن وجد اختلاف فهو قليل، وهو بسبب سوء الفهم للتعبير.

فلا حجة للطاعنين في الإسلام بما يستدلون به من أحاديث، قد تكون مكذوبة أو ضعيفة، ناهيك عن الإحتجاج بكلام بعض علمائه.. فالقرآن العظيم هو عمود الإسلام المتين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

حديث, قران
عرض التعليقات
تحميل المزيد