يقول أسامه دره: “قررت أعطّل العمل بالإسلام كدين، للتنافر بين بعض تفاصيله، وما أظن من الرشاد والمنطق مثلاً السماح بزواج الطفلة، (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، صحيح يؤول البعض: (اللائي لم يحضن) بالنساء البالغات اللائي لم يحضن لمرض، لكن النص يحتمل المعنيين، فلم صيغ النص بصيغة تحتمل معاني متخلفة؟!”([1])
لا ينكر أحد أن داعش تستند للقرآن والسنة، وأن تأويلهم للنصوص نرفضه، لكن لا ننكر أنه تأويل يحتمله النص!
يُنسب للإمام علي قوله: “لا تجادلهم بالقرآن، فإنه حمَّال أوجه”([2])، كيف نحتكم لنص حمَّال أوجه؟
قضية التأويل هي أعظم خطر واجه القرآن؛ فقد أُستخدم النص للدلالة على معنى وضده! لتكوين عقلية علمية أو خرافية! نفس النص يؤوله اثنان فيتقاتلان!
لماذا نؤول النص؟
“قال النبي: “أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً” فكانت نساء النبي يقسن أيتهن أطول يداً، حتى ماتت زينب، وهي قصيرة، فعلموا أن المراد بطول اليد: الجود والكرم”.([3])
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا): يقول القرطبي: “ليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه”([4])
قال النبي: “إن الله يقول: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟” يقول النووري: “إنما أضاف المرض إليه سبحانه والمراد العبد تشريفا للعبد. ومعنى (وجدتني عنده) أي وجدت ثوابي وكرامتي.([5])
إذن فالقرآن والحديث أغنياء بنصوص يستحيل فهمها دون تأويل، وإلا أخرجناه عن طبيعته، وضللنا عن مقصد الله.
لماذا أنزل الله نصاً قابلاً للتأويل؟
-
طبيعة اللغة:
اللغة: هي مفردات يتضح بها معنى في ذهن المتحدث. هذا المعنى لا يتحدد إلا عن طريق الممارسة للمخاطَب والمخاطِب؛ فعندما نقول (أسد) فيرجع المخاطَب هذه الكلمة لتجاربه، فيعرف أنها (إشارة) لذلك الحيوان، وإن كان المخاطَب لا يعرف الأسد، عندها يتم (تفسير) الكلمة بوصف الخصائص ليفهمه. أما عند القول: رأيت جنوداً أسودا، فعندئذ ينصرف الذهن إلى الحيوان المسمى أسد، لكن لا يستقيم المعنى، فيتم (تأويل) النص بأن المتحدث يقصد شجاعة الجنود.
هذه العملية هي (صرف الذهن عن المعنى الظاهري، ثم إرجاعه لمعنى آخر) هي العامل الممتع والجمالي والبليغ في اللغة، وقد اهتم اللغويون في كل لغة بهذا الجمال والإمتاع من وراء النص، وليس فقط استخدام اللغة للإشارة إلى معنى محدد وجاف، فوضعوا عدة أساليب لتحقيق هذه البلاغة. في اللغة العربية تم الاهتمام بالتشبيه، والكناية، والاستعارة، والالتفات، والمشاكلة، والتورية … إلخ.
القرآن الكريم باعتباره نصاً عربياً، يخضع لما تخضع له اللغة، من استخدامه للإشارة والتفسير والتأويل؛ فهو يشير للمعنى بوضوح، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) فها هو البحر، وها هي العصا، ومعروف معنى الضرب، ويقول: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)، فالأَب: ما ترعاه الأنعام، وبهذا التفسير يصل المعنى. ويقول: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، الحرث هو النبات، وهنا ينصرف الذهن إلى (ائتوا نباتكم) ليجد المعنى غير منتظم، فنترك هذا المعنى الظاهر محملين بمشهد النبات المثير للرزق والسعادة والنماء، ومن السياق نؤول حرثكم إلى نسائكم مثارين بمشهد الرزق والنماء. وهنا نجد النص يتعرض لقضية جنسية وحكم فقهي، دون إحراج أو جفاء، بل بنص بليغ رقيق ومهذب.
لماذا أنزل الله رسالة تخضع لمشكلات اللغة؟ هو نفس سؤال: لماذا بعث رسلاً بشراً بما في العنصر البشري من نقص؟
الله هو إله قادر مطلق القدرة، واستخدامه لوسائل ليس لعجز عنده، وإنما لعجز الجانب البشري، فلا تصل إلينا رسالته إلا بوسيلة من جنس ما نستخدمه نحن، وسيلة حياتية، دنيوية، أرضية، بما يكتنفها من مشكلات أو نقص.
-
دقة النص تابعة لغرضه:
يُتهم القرآن بأنه رغم كونه نصا تشريعيا، إلا أنه ليس كله بدقة النصوص القانونية.
من التعسف التعامل مع القرآن على أنه كتاب علمي أو قانوني، وإنما هو يتحرى الدقة، ويتلمس جمال البلاغة، ويؤثر في القلوب، فهو يجمع عدة مقاصد مختلفة، وتتفاوت دقة النصوص طبقاً لتفاوت مقصادها؛ فالنص القانوني يتطلب دقة تختلف عنها في النص العلمي عن التاريخي عن العاطفي.
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا…) هنا نص قانوني محدد ودقيق عن مصارف الزكاة.
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أما هنا فالنص عاطفي للترغيب في الصدقة مما رُزقنا، دون تحديد كم أو جهة أو وسيلة، هو فقط يحث على الإنفاق من كل رزق، شاملاً المال والعلم والصحة… إلخ.
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا …) هنا نص يضع حداً بين القتال والاعتداء.
(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) هنا نص يواجه المسلمين الذين تحرجوا من قتال أهل الكتاب من الروم لأول مرة، فيحثهم عاطفياً بإبراز ضلال عدوهم.
-
المتشابهات والبلاغة:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)
يعترف القرآن صراحة أنه قد يُستخدم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ أي اعتباره دليلاً على ما ليس منه. ومنه نتفهم أن قابلية النص للتأويل الفاسد ليست سقطة ولا سهواً، وإنما هو مقصود لحكمة.
المشكلة هنا أخلاقية: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، والحل علمي: (َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
لا نجد تقسيماً محدداً للآيات المحكمات والمتشابهات، يقول ابن عاشور: “فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، وربما كان إدراك حالته مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم”([6]).
يقول الراغب: أسباب التشابه:
- من جهة اللفظ: مثل استخدام لفظ غريب، أو لفظ يشترك في أكثر من معنى، أو لاختصار تركيب الجملة. مثل: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ)، هل اليمين يُقصد بها القسم الذي أقسمه إبراهيم بتكسير الأصنام؟ أم بيده اليمنى؟ أم كناية عن الشدة؟ اللفظ يحتمل كل ذلك.
- من جهة المعنى: وهو لا خلاف على ألفاظه، بل المشكلة في معناه، مثل وصف الغيبيات كيوم القيامة، فلا ندرك طبيعتها. مثل: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فكيف هذا المجيء والاصطفاف؟ لا نعلم.
- من جهة اللفظ والمعنى: مثل: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)، لا يمكن فهم الآية إلا بمعرفة أن جماعة من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها وإنما من فوقها. وبذلك تشابه علينا النص من جهة اللفظ؛ لأن الطبيعي قوله: (ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها بعد أن تحرموا من الحج أو العمرة” وتشابه من جهة المعنى، لأنه كان يلزمنا معرفة أن هذه عادة العرب حينئذ.([7])
يقول الزرقاني: حِكَم وجود المتشابهات:
- فيما يختص تشابه المعنى لوجود غيبيات، فإن أهم أركان الدين هو الإيمان بالغيب، والتسليم للخالق.
- تحقيق إعجاز القرآن؛ لأن كل خفاء أدى للتشابه هو في الحقيقة لداعي البلاغة وجمال الصياغة.
- التشابه الناتج عن الخفاء يدل على معان كثيرة لو عبَّر عنها بألفاظ، لخرج القرآن في مجلدات ضخمة.([8])
-
عالمية النص:
يقول أسامة الأزهري: “يتوقف فهم الجمل التركيبية على أمور زائدة على الوضع اللغوي، منها قوة تصور المستمع واستحضاره للاحتمالات المتعددة التي يفيدها التركيب، ومنها معرفةٌ سابقةٌ من المستمع بأطراف من المعاني المقصودة التي أرادها المتكلم، فيدرك عند سماع التركيب أن دلالته تتسع لتتناول تلك المعاني، ومن غابت عنه تلك المعرفة، وقف عند المعاني الأولية المتبادرة من التركيب، حتى إذا طرقت سمعه تلك المعاني المقصودة استنار التركيب في ذهنه، ولاحت له تلك الروابط التي تربط بين التركيب وتلك المعاني.
ومعنى هذا، أن لكل مستمعٍ حظاً من فهم التركيب، بحيث كلما اتسعت معرفته، وازدادت خلفياته، وامتد تصوره إلى معان أوسع، رأى أن التركيب يحتملها.
فالقرآن نصٌّ جـاءت ألفاظـه وتراكيبه من عند الله، بحيث لا تتناقض مدلولاته مع أي سقف معرفي يأتي به زمن، وليس ذلك في طوق بشر؛ بل كلما تدخـلـت الأهـواء البشريـة في الكتب السماويـة، فإنها بتصوراتها القاصــرة تقيد طلاقة النص وإطلاقه.
والمقصود أن البشر كلما ارتقت معارفهم، واستحدثت عندهم علوم ومعطيات، وجدوا أن النص القرآني متسق مع تلك المعطيات، قال الرافعي: “القرآن وجود لغوي، رُكِّب ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية””([9])
-
إرادة الاختلاف:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)، توجه النص نحو تجنب الخمر، إلا أنه لم يقطع بالتحريم، فتردد المسلمون في استقبال النص بين صاحب عزيمة تجنبها تماماً، وآخر، أقل عزيمة، تمسك بالرخصة ولم يجتنبها، إلا أنه علم توجه المُشرِّع. يمكن القول هنا أن عدم قطعية النص ليس ضعفاً لغوياً، وإنما هي إرادة المشرع؛ فقد أراد سبحانه ذلك الخلاف، أراد أن يختلف الناس في استقبال النص طبقاً لعزائمهم، بحيث يقترب الجميع من مواقعهم المختلفة خطوة بعيداً عن الخمر؛ فصاحب العزيمة يتوقف، والأقل عزيمة يتهيأ للتحريم. إذن فالاختلاف في فهم النص بعضه إرادة المشرع نفسه.
ما ضوابط التأويل؟
- السياق: عمل التأويل أصلا في النص لا في المفردة المنفصلة، فإن كان النص مترابطا كوحدة موضوعية لزم أن يكون التأويل مترابطا لا يخرج عن السياق.
- فقه المحل: لكل نص حيز للتطبيق يعمل فيه، وجر النص لغير محله يفقده معناه.
- سبب النزول: مما يعين على معرفة محل عمل النص هو معرفة فيم نزل؟ ولم نزل؟ وكيف عمل به النبي؟
- مقاصد الدين: لم ينتهج القرآن نهج الكتب المؤلفة، بحيث يحصر كل أقواله في القضية الواحدة مرة واحدة ولا يعود إليها أبدا، وإنما وزع موضوعاته في ثنايا السور، وبذلك يستحيل فهم موقف القرآن من قضية إلا بحصر آياته المتعلقة بالموضوع معاً.
- اللغة: الأصل هو التفسير طبقاً لظاهر النص، ولا تأويل إلا بدليل.
إذن نص بتأويل غير مضبوط، أو بلا تأويل هو طلاسم حمَّال فتن، يقف الناس أمامه عميان يتحسسون منه ما يوافقهم، يدعو لأي شيء وضده.
_______________________________________________________________________________________________
[1]. مقال (التحليق فوق الدين)
[2]. الإمام القرضاوي: “لا أدري مدى صحة نسبة هذه الكلمة إلى علي، فقد بحثت عنها في مظان كثيرة فلم أجدها بهذه الصيغة رغم اشتهارها”.
[3]. (شرح النووي على مسلم) رقم الحديث: 4490
[4]. (الجامع لأحكام القرآن) ج10 ص105
[5]. (شرح النووي على مسلم) رقم الحديث: 2569
[6]. (التحرير والتنوير) ج3 ص157
[7]. (مفردات القرآن) ص254
[8]. (مناهل العرفان في علوم القرآن) ص221
[9]. مقال (حوار مفتوح مع أسامة دره)
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
القرآن