فكرت كثيرًا فيما أكتبه اليوم في ذكرى رابعة، الذكرى الرابعة للمذبحة التي نالت من قلوب الأحياء وضمائرهم قبل أن تنال من أرواح الشهداء وأجسادهم. أصبح الحديث عن هذا اليوم مبتذلًا بعض الشيء، حديثًا لا يليق بجلال الموقف وبألم الذكرى على من عاش هذه التجربة. كلمات العزاء والمواساة صارت مكررة، وعبارات التنديد باتت سخيفة، لا تسمن ولا تغني من جوع، مجرد التوجع وإظهار الأسى أضحى مدعاة للنقد بدعوى إعادة استنساخ كربلاء جديدة. آثرت الصمت والاكتفاء بدعوات صامتة على أرواح طاهرة ربما راودها الحلم الخطأ أو ظنوا أنهم يمتلكون القدرة على الأحلام فأفاقوا على رصاصات ودماء.
«جئت من خارج السور حيث دمرنا جميعًا بعضنا البعض، صممنا مدينتكم كتجربة نعتقد أنها الوسيلة الوحيدة لاستعادة الإنسانية التي فقدناها، وقد أنشأنا فصائل لضمان السلام، لكننا نعتقد أنه سيكون بينكم من سيسمو على هذه الفصائل، أولئك سيكونون المتشعبين. إنهم الهدف الحقيقي لهذه التجربة وهم ضروريون لبقاء البشرية. حان الوقت لتخرجوا من عزلتكم وتعودوا للانضمام إلينا، جعلناكم تعتقدون أنكم آخر البشر لكنكم لستم كذلك. البشرية تنتظركم وملؤها الأمل وراء السور».
بالتأكيد لم يتح لمن بادر في التفكير في الاعتصام برابعة مشاهدة فيلم سلسلة أفلام المتشعبون، فجزؤه الأول (Divergent) صدر في العام التالي للمذبحة، لكني أتخيل أن فكرة شبيهة قد دارت بخلده وخلد كل من انضم لاحقًا للاعتصام، حلم إنقاذ البشرية وتحريرها من الظلم والقهر اللذين تفشيا على يد قادة الاحتلال ومريديه. لكن نظرة واحدة للمرابطين خلف أسوار رابعة كانت كفيلة بتفنيد هذا الحلم وانهياره، لم يكن من السهل وصف عشرات أو مئات الآلاف من المعتصمين بالمتشعبين، ربما كان الأكثر واقعية أن يندرجوا تحت فصيلة «الأميتي» الداعية للسلام، أو «الكاندور» المخلصة الصادقة، أو «الأبنيجيشن» المعروفين بالإيثار، لكنهم بالتأكيد لم يكونوا متشعبين بالدرجة الكافية لإنقاذ هذه الأرض وما عليها.
هل كان «الإيروديت» المثقفون، أهل العلم، هم الأجدر بحيازة مقاليد الحكم؟
لم يكن الخيال مغايرًا للواقع كثيرًا، وكما حدث في سلسلة المتشعبون وكان المثقفون هم المسمار الذي دُق في نعش الدولة، جاء الواقع شبيهًا إلى حد التطابق. بذلت فصيلة كارهي الإسلاميين جهدًا مفزعًا من أجل الإطاحة بالفصيلة الحاكمة، واستعانت بالقوة «الدونتليس» من أجل تحقيق ذلك، ونجحت بالتعاون مع حاملي الأسلحة المرخصة، والمكلفين أصلًا بحماية الفصائل جميعًا، في التخلص من الفصيلة الحاكمة.
هنا بدا أن مصير الواقع قد اتخذ مسارًا آخر، لم يهب المتشعبون القابعون خلف أسوار رابعة، أو حتى خارج هذه الأسوار، للدفاع عن حقهم وحق الجميع في الحياة، في العدل والحرية، بل آثروا الاحتماء بأسوار قلعتهم الحصينة (كما ظنوا) عسى أن يعود الغاشمون إلى رشدهم ويجنحوا إلى السلم. لم يفطنوا إلى أن ما يفعلونه بالدفاع عن فصيلتهم هو تمامًا ما فعله أعداؤهم، رفع الجميع شعار Faction before Blood وانحازوا إلى قناعاتهم بسمو فصيلتهم، وضرورة سيادتها.
«لكني أفضل المجازفة بحياتي هناك على قضاء بقيتها هنا، هذا المكان ليس موطننا ، لقد وضعنا هنا، حبسنا هنا، على الأقل في الخارج لنا خيار».
بالتأكيد تمنى الكثيرون سماع هذه الكلمات من مرابطي رابعة قبل أن يلتهمهم الجريفر (Grievers)، تمنينا أن يحالفنا التوفيق فيظهر لنا عداء جديد ينقذنا من هذه المتاهة، المتاهة التي ظل المحاصرون فيها على قناعة بعدم جدوى الخروج، فضلًا عن استحالته. رسم العداؤون خارطة لها تمامًا كما رسم خيال كاتب سلسلة (Maze Runner)، وظنوا ألا مخرج من هذه المتاهة، رضوا بالعيش فيها فاقدين لأبسط حقوقهم الإنسانية، قانعين بما يسمح لهم به صانعو المتاهة.
صحيح أن الهاربين من المتاهة في الفيلم قد لاقوا العديد من الصعوبات بعد خروجهم، صحيح أنهم واجهوا العالم البغيض في معركة بدا أنهم هم الأضعف فيها، لكن مجرد تمردهم على المتاهة وخروجهم إلى الفضاء الواسع مكنهم من التحالف مع آخرين، وقضى على تقوقعهم وانغلاقهم الذي كان سيوردهم مهالكهم حتمًا، وهو ما حدث حرفيًا في رابعة. تمسك الجميع بالمتاهة فكان أن أبيدت عن آخرها، وخرج من خرج منها ميتًا حتى وإن بدا غير ذلك.
أربع سنوات كاملة مرت على رابعة لم تزد مواطنيها إلا ألمًا وبغضًا لمن لم يشاركهم حصارهم أنفسهم، ولم تزد المحاصرين إلا ظلمًا وقسوة، ولم تساعد من ساعد على الفتك بهذا الحصار في أن ينفض عنه أساطير رسمها في مخيلته وبنى عليها صرحًا من الأوهام، ولم تستطع أن تخرج المتشعبين من عزلتهم الاختيارية، المتشعبون؛ ذلك الأمل الطفيف الباقي بعد موت كل عدائي المتاهة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست