تقول رضوى عاشور:
“عندما غادرت طفولتي، وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي، وجدتُ بداخله هزيمتهما، بكيت، ولكني بعد بكاء وتفكير أيضًا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: (ماذا لو أن الموت داهمني؟) ساعتها قررت أنني سأكتب كي أترك شيئًا في منديلي المعقود، وأيضًا لأنني تنبهت – وكنت في الرابعة والثلاثين من عمري- أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلق بالمطلق، وأن الوقت حان للتحرر من ذلك الشعور بأن عليَّ أن آتي بما لم يأتِ به الأوائل أو أدير ظهري خوفًا وكبرياءً”.
أما نحن فعجزة لا نملك من أمرنا أي شيء، لا نملك من حياتنا سوى ملامح مشوهة وذكريات تقتلنا، وحيدون نحن كنا نستظل بأورقك الوارفة، ونصبر أيامنا ووحدة عجزنا بكلماتك. نرافق ندى في رحلتها، ونرحل مع رقية، ونستأنس بأحاديث مريمة ونسكن قربها، ونواسي علي وعبد الرحمن وحازم.. أبناء مبتسرون يا شجر لا نعرف أي جيل سيخرج من أرحامنا، أشد عجزًا وحيرة، عاجز عن الحلم والأمل والحياة. وحيدون ومنتهكون ومحاطون دائمًا بالكآبة! وحيدون يا رضوى، وحدنا نسير إلى نهاية نفق مظلم، لا نعرف من نكون، ولا أي نهاية سنصل في تلك العتمة الباهرة الباكية الضاحكة!
أتدرين يا رضوى كم من الحكايا أخفيتها كي أسردها على مسامعك، وأنا أجلس بين يديك أقرأ ما كتبت لكِ عن أعمالك؟ كنت أود أن أحكي حكاياتي عن اختيارك موضوعًا للبحث. كيف أتت تلك الفكرة إليّ بعدما عكفت على قراءة موضوع آخر لأكثر من ستة أشهر. ولكن عندما عرض عليَّ أستاذي اسمك، تنبهت. هذا عرض لا أستطيع رفضه. ذهبت يومها لدكتور صلاح في مكتبه بمكتبة الإسكندرية أعرض عليه ما لدي.
أتذكر وقفة زينب معي وجلوسها إلى جواري في المسجد بعد صلاة العشاء، وإمساكها بيدي وطمأنتها لي بكلماتها التي أحتفظ بها كسر صغير من أسرارنا، كما أحتفظ بحكايات الخميس المقدس، ورقصة القلب الشغوف باللقاء عند الماكينة المقدسة، وضحكاتنا على صفعة جوني ديب في فيلمه الشهير، ونظر الناس لنا كأننا من كوكب آخر هبطنا فجأة على حجرة مشاهدة الأفلام؛ كي نعكر صفوهم بأصوات ضحكاتنا العالية و”ألشنا” الذي لا ينتهي عنه.
أتذكر ذلك الصباح جيدًا. صباح يوم الأحد الموافق 4/7/2010، قال لي أستاذي ستدخلين مجلس الثلاثاء، نظرت إليه غير واعية لما يجري حولي، “التلات اللي بعد بكرة!!”، أتذكر تفاصيل جلسة “السمينار” والأوراق التي قدمتها متأخرة، وأسئلة أساتذتي وخاصة سؤال د. فوزي أمين رحمه الله. ودخولي أول طالبة إلى الجلسة، وتكراري لموضوع خطتي ونظرة بعضهم لي على أنني تلك الصغيرة التي يحمل وجهها ملامح فتاة في الثانوية وهي تناطح الأساتذة، وتريد أن تكون ندًّا لهم، ونجدة أستاذي لي عندما سُألت عن “الأنساق الثقافية المضمرة”، وعجز لساني عن الرد وهو يخبرني بأن هذه الأسئلة تكفي… “اللي بعده”.
لم أكن أعلم أن مجهود الشهور السابقة قد تجمع ليصب في خانتك أنتِ دون الآخرين، كنت أتعلل بالغباء تارة، وبالنفور تارة، وبالعناد تارة أخرى كي أبحر بعيدًا عن خيوط أحلام مستغانمي وبثينة العيسى وغادة السمان، وغيرهن من الكاتبات اللواتي أعتبر كتابتهن كتابة سوق لا أكثر. شهور قضيتها بين علم المصطلح والبحث في أصول الرواية التاريخية والاجتماعية والنفسية والوجودية، ومحاولات فك طلاسم الكتابة النسائية التي كنت أجهل عنها كل شيء.
فجأة جئت أنت من بين الجميع، بحث عن الراوية النسائية بنموذج مختلف لا يشبه كتابات النساء المنتشرة على الساحة، والتي تصدع رؤوسنا بحكاياتهن مع الرجال الأوغاد، والصراع الدائر على عجلة المساواة بين الذات والآخر والقهر والحرية والموت والحياة. كان قلمك قلمًا مغردًا خارج الصف يحمل هم الأمة، ويحكي عن معاناة الناس في فترات الانهيار. امرأة عربية ولدت في عام 1946 ترى حياتها بين سقوط القدس وسقوط بغداد. حياة كاملة من البحث عن الأمل وسط خراب الهزيمة، ومحاولة الكشف عن أسباب السقوط. أعمالها تبحر بنا في رحلة ما بين الأندلس وبغداد. حياة تحمل بين جنباتها كل الهزائم.
كان هناك خيط ما يربطني بك منذ أن قرأت لكِ “ثلاثية غرناطة”، روابط خفية كتلك العلاقات العابرة التي تربطنا بأشخاص لا نعرفهم، ونقابلهم صدفة، ونحكي لهم عن كل ما يموج به القلب، ونتركهم على موعد بلقاء آخر لا نعلم ميعاده، ولكننا نتمناه. صدفة خالية من الانتظار تملأ القلب بالشغف والحنين.
لحظات من ألفة الحزن ووحشة الغياب في أنواء الهزائم المتكررة. هزيمة كبرى تجمعنا، كلما حاولت أن أهرب منها وجدتها جلية واضحة كوضوح الشمس. كلما تعمقت في قراءة أعمالك واتضحت الصورة، حملت الهم أكثر وازدادت وحدتي وفاض اكتئابي. وحدة ملغمة بالحنين والبحث عن أشياء نلامسها ونملكها فتهرب بعيدًا عنا، فنشقى بنيرانها. وحدة كوحشة أليفة تلتصق بنا، كفراشة طليقة ضلّ سعيها بالحياة فقررت الاقتراب من النيران التي ألفت وهجها حتى احترقت به. كغريب في عالم يلفظك ويعاملك بحذر وينظر لك ويتعجب من شدة تحملك وانهيارك لأتفه الأسباب، محملاً إياك نتائج ما حدث ويحدث وسيحدث؛ وكأنك جبل أصم خلقت من العدم وستعود إليه، وكأنما مقدر لنا أن نحيا في هذا العبث الذي لا ينتهي، ولا يبدو أن لهذه الدائرة خلاص ولا نهاية.
شاركتك – يا رضوى- حياتك وانتصاراتك وهزائمك، وكأنني صرت واحدة من العائلة أعرف خبايا نفوسكم وأتعامل معها، أعرف كل كبيرة وصغيرة عن تميم ومريد. أتخيلك وأنت تجلسين إلى جوار تميم تحكين له قصتك مع مريد، تسمعينه من القصص والأحاجي ما تعجز عن حكيه الجدات، تأخذين بيده – كما تأخذين بأيدينا- وترسمين حكاية من صنع خيالك تجمع كل الحكايا والأحاديث والأقاويل، تحكين له عن رضوى ذات العينين الواسعتين، وعن مريدها الذي احتمت بظله، تسمعينه حكايتك الأخيرة التي تحمل الأسى والحزن.
أقترب وأدقق السمع، أحاول أن أسمع منكِ الحكاية الأخيرة، ولكنها تتسرب كطيف أعرفه ولا أملك له دليلاً. كلما حاولت أن أُسمع حكايتك التي تسكن خيالي للمحيطين، أجهل من أين أبدأ وأين سأنتهي، حتى وضعت أنت النهاية. بين ليلة وضحاها وبعد أن تحقق الحلم ولم يبقَ سوى لحظات قليلة على اللقاء الذي طال انتظاري له. رحلت أنت دون كلمة وداع، ودون أن أسمعك شكري وامتناني وتساؤلاتي، وكأنه مقدر علينا أن نفترق دون أن نلتقي.
كلما طلع الصباح أجلس في فراشي أبحث عن عمل أقوم به، أشعر كأن هناك شيئًا نزع مني غصبًا، عملاً عكفت عليه بشغف، أخبرت عنه البعض وأخفيته عن الآخرين.
أتدرين يا رضوى كيف كان شعور الصبية التي فقدت أمها وهي صغيرة؟ شَعرتُ حينها أن ظهري يكشف للجميع، وعندما وجدت الشجرة التي يستظل بظلها الجميع فقدت الظل للمرة الثانية. رحلت أمي عني دون وداع وللمرة الثانية، رحلت رضوى فجأة كما رحلت مريمة، رحلت من كانت تساندنا حتى آخر رمق، رحلت ونحن في منتصف الطريق، تركتنا مجبرة كما تركت مريمة عليًّا على حافة الهاوية دون وداع. رحلت إلى مكان لا وحشة فيه ولا غربة.
ربما خفت اللقاء، وخفت أن أتعلق بك بعد كم الحكايا التي سمعتها عنك، خفت أن أجد فيك ما أبحث عنه، وخفت ألا أجده. آثرت أن يكون كل ما أفكر فيه ملكي أنا، لم أخبر به أحدًا. ولكني حرمت من لحظة الوداع، وجلست في غرفتي طوال الليل والنهار أبكي. لا أجد سوى بعض الكلمات العاجزة التي لا تظهر معالمها من حشرجات البكاء، خيبة أمل أخرى تضاف إلى أخواتها التي منيت بها في عمري القصير.
أتعرفين يا سيدة راء ما زال في جعبتي الكثير من حكاياكِ التي لم أخبر بها أحدًا؟ ما زالت لدي القدرة على تحمل هزائم أشد، وعلى أن أفارق الأصدقاء والحياة. ما زال بالقلب متسع لطعنات أخرى، ما زال بالقلب متسع وقدرة، وما زال هناك الكثير من الحكايا التي تسكن القلب، وكنت أحلم بأن أقصها على مسامعكِ يومًا.
لا وحشة في قبر رضوى.
لا أحد يقدر على الرحيل مخلفًا وراءه كل هذا الحب.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست