مقدمة كئيبة

في الآية الثامنة والأربعين من سورة الصديق يوسف عليه الصلاة والسلام يقول الله: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ).

وكما يظهر أنَّ الآية الكريمة تناولت السنين السبعة العجاف التي نزلت بالناس في مصر، غير أنَّ عامًا فيه خير كثير تبع هذه السنوات الطوال، فكان الماءَ الذي روي ظمأ السبع السابقات، و(الطبطبةَ) التي جبرت خاطر المنكسرين المستضعفين.

أمَّا مصر 2018، وبعد سبع سنوات كاملة من حدوث الثورة، فلا تزال لم يأتِها الغيثُ بعد! وفي الذكرى السنوية ليناير الجميل، وبعد هذه المقدمة التي تليق بغيابي عن قراء هذا الموقع الكريم لأكثرَ من عام ونصف، لتسمحْ لي عزيزي القارئ أنْ أقول لك إنَّ الحقيقة الواضحة بعد كل هذه السنوات أنَّ ينايرَ ألفين وأحدَ عشرَ كان ممطرًا جدًّا وحسب!

مشهد كوميدي ساخر

دعني أتقمَّصُ بطولةً زائفةً، (فأتشمللُ) أمامك عزيزي القارئ، وأقول إنَّه في هذه اللحظات العصيبة من تاريخ الوطن، كنتُ مناضلًا في ميدان التحرير، أتخطى الرقاب ودبابات العسكر وسماء التحرير المُلَّبدة بأحلام حُبلى في وطن كنا نتمناه؛ كي أمنع الرصاصة من أن تقع من (جيب) الأستاذ محمود ياسين، أو لأدفع عن سيادة الوزير الرصاصة الطائشة؛ فأفوز بمقعدٍ في برلمان (الواد محروس بتاع الوزير)! أو لنكنْ واقعيين أكثر، دعني أخبرك أنني كنت أناضل مع جماهير مصرنا الغفيرة من أجل أنْ يمشيَ لأننا (مش هنمشي)، فإن لم يغادر مبارك موقعه لأجلنا، فليكنْ من أجل ذلك الشاب الذي (اتذنِّب) في ميدان التحرير وهو يستحلفه بأيمان المسلمين والمسيحيين واليهود متحدة أن يرحل (علشان عاوز يحلق شعره)، أو لآخرَ أتعبته طوابير قضاء الحاجة الطويلة في الميدان، فاستحلف مبارك برأس جدِّه الكبير أن يرحل، لا لشيء إلَّا لأنه (عيب كدة.. عاوز أستحمى بقى!) حسنًا لنكن واقعيين وصرحاءَ جدًّا، دعني عزيزي القارئ – إنْ استمرَّ هناك أحدٌ حتى هذه السطور – أخبرُك أنِّي في هذا اليوم من تاريخنا المعاصر ذهبتُ كعادتي إلى طنطا متسلِّلًا في غفلة من الزمن كي لا يراني أبي – حفظه الله – ثم التحقت بالصلاة في أحد مساجد طنطا الشهيرة التي لا أذكرها حاليًا، ثم انطلقنا بعد صلاة الجمعة، وكُنَّا لا تتجاوز مائتين على الأرجح، كان كل شيء مُهيَّئًا لأنْ يكونَ يناير ممطرًا والحادي عشر من فبراير زاهيًا.

 دبابات الجيش بلونها الأصفر التي تبدو على الحياد – واخدلي بالك – مرسومةً عليها عبارات وطنية، بعضها مسئٌ لشخص مبارك، كذلك نوافذ البيوت في طنطا المتخمة بأناسٍ يرمون باقات الورود علينا مجازًا وحقيقةً، بابتساماتهم التي تزرع فينا ثقةً في غدٍ أفضل على أيدينا، وبعبارات الثناء التي رمتنا بها عيون العواجيز منهم حين نجحنا فيما فشلوا فيه هم، كذلك توابع أصوات الرصاص الذي لم يغادر المدينة منذ أن بدأ في الخامس والعشرين من يناير الذي سبقه.

لم تتجاوز الساعة الثالثة بعد العصر حينها حتى لفَّت مظاهرتنا طنطا طولًا وعرضًا.. دخلنا المدينة من الباب الكبيــــر! فعلناها إذًا. بدايتنا كانت في منتصف شارع البحر أحد أشهر شوارع طنطا ونهايتنا وصلت إلى ميدان الجلاء، بما بينهما من شوارعَ جانبيةٍ وقلوبٍ معلقةٍ بنا، الذي تشرَّف بزيارة طنطا الجميلة سيعرف من الوصف الأخير كم كانت المظاهرة حاشدة، المهم وحتى لا أطيل على شخصكم الكريم، الأنباء أتتنا تترى عن خطابٍ مرتقبٍ بعد قليل.. أذكرُ أنني ساعتها كنت أتحين اللحظة والثانية لأختبأ في مكان هادئ؛ حتى أتمكن من الاتصال بأبي لأطمئنه على حالتي مع صديقي الذي أتناولُ طعام الغداء عنده.

بالمناسبة، بعد التنحي أخبرني أبي أنه كان يعرفُ في كل مرةٍ أخرج فيها لأنضم إلى مظاهرة. كان قلبه يخبره.. هكذا أخبرني.. إذًا احترسوا من قلوب آبائكم؛ فهي تسمعُ وترى! قبيل المغرب، ومع ازدحام المدينة تمامًا بمئات الآلاف من المتظاهرين قررنا أنْ ننهي فعاليات اليوم في انتظار ما يخبئه لنا الغد، وإنْ كانت مصر لا تبخلُ أبدًا بما تفاجئنا به في كل حين!

انتهت المظاهرة واتجهتُ إلى ميدان الجلاء الذي كان قريبًا جدًّا من آخر خطوط سير المظاهرة الضخمة برفقة صديقين طبيبين – لا داعي لتسميتهما الآن – ثم اتجهنا ثلاثتنا إلى موقف الميكروباص الذي حملنا إلى منازلنا.. في الطريق بعيد المغرب، وبينما كان السائق (يتمرجح) بنا على أحد المطبات الشهيرة التي تُزيِّنُ الطريق جاءتني مكالمةٌ قاهريةٌ تخبرني بالخبر.. مبارك اتنحى! (أيوة تنحى).. لم أتمالك نفسي ساعتها.. أذكر أنني قبلتُ السائقَ أو فعلتُ شيئًا جنونيًا، بينما انقسم من كان خلفي من راكبي الميكروباص إلى فريقين.. أحدهما تعاطف مع ابتساماتي البلهاءَ في مشهدٍ يبدو وكأنَّهم لا يدركون حقيقة الحدث، بينما اكتفى الفريق الآخر (بمصمصة) شفاهه وإطلاق عبارات على شاكلة.. (بكره تعرفوا قيمته)، وقد كان! متى سترجع يا (أبو عيلاء.. كنا بنهزَّر).

إذًا الثابت الآن في ذكرى التنحى أننا ظاهريًا انتصرنا على (غشومية العجوز) الذي احتل البلد لمدة ثلاثين عامًا كاملة.. والثابتُ كذلك أنَّ الأيام لم تكن حبلى في خير لا سمح الله! بل إننا انتصرنا على (أبو عيلاء)، بينما قتَلَنا صبيانُه!

سنوات عجاف

تحتاج الفترة من بعد الحادي عشر من فبراير عام 2011 إلى لحظة كتابة هذه السطور أطنانًا من الحِبر والورق والمشاعر والرفاق الذين فرقتنا عنهم أكفانٌ وزنازينُ وآمالٌ ضائعةٌ ومستقبلٌ (مالوش ملامح!) بيد أني سأحاول فقط في فقرتين رئيستين ختاميتين أنْ أطرح موجزًا قصيرًا جدًّا لما مررنا به وما أصبحنا عليه.

لماذا خرجنا في الخامس والعشرين من يناير؟

من باب سد الثغر ، وأنَّ ما سنستطيعه اليوم سنعدمه غدًا، وأنَّ التاريخ سيكتبه (الكاب والدبُّورة)، فعلينا أن نعلم أطفالنا ألف باء يناير.. نحنُ يا أبنائي لم نخرج اعتباطًا أو رفاهيةً وقتيةً حينما قررنا الخروج، خرجنا لأننا مصريون ملُّوا من إطلاق نكات ساخرة على مصرهم، بينما التغيير قاب قوسين أو أدنى! خرجنا لأن قلةً مندسةً من شباب هذا الوطن أرادوا أن يعيش هذا الوطن كريمًا.. كريمًا فحسب! خرجنا لأنه لم يُكتَبْ على الفقراء جنةُ الآخرة بينما يسرق الأغنياءُ جنانَ الدنيا! خرجنا لأنَّ العفن قد استشرى فيما يدعونها – زورًا وبهتانًا – مصرَ مبارك أو سين أو صاد أو عين! بينما مصر كانت وستظل أكبر من كل هؤلاء الأقزام مجازًا وحقيقةً.. مصر أكبر من تاريخ يحدها أو دوائر وأيديولوجيات تؤطرها.. مصر أكبر لأن واقعها قد فرض عليها ذلك.. جغرافيا وتاريخ وسقوط وقيام وتخاذل وانتصارات وتناقضات حتى الثمالة، كل ذلك يدفعنا لأن نقول إنها أكبر من أحد مهما كان دوره أو بلغ إسهامه! لم تكن المشكلة في مبارك أبدًا قدر ماكانت في ذلك الفكر العفن الذي تغلغل فينا جميعًا بدايةً من (مصر محفوظة لأنها مذكورة في القرآن) انتهاءً بالميري الذي إنْ فاتك (اتمرمغ في ترابه!).. نحن نستحقُ أن نكون أفضل.. أفضل في كل شيء.. لا نحتاج إلى مبررات حتى يصدقنا الناس.. هذه حقيقة تُؤخَذُ كما هي وحسب.. نستحقُّ أن نكون أفضل في كل شيء.. والقاتلُ الذي قتلنا ليس ربًّا ليقتلنا بمشيئته، كما قال دنقل!

ما الذي أصبحنا عليه؟

نحن في مرحلة ما بعد العبثية، علِّموا أولادكم هذا جيدًا.. تبقى المشكلة الرئيسة لديَّ في غياب زمن الديكتاتور الجميل الذي يقف هكذا (مَلْو هدومه) ليتعنتر بخطب رنانة على الشعب الذي لا حول له ولا قوة.. كل المشكلة في أننا نعيش زمن الديكتاتورية (المهزَّأة) بكل تفاصيلها وخباياها، في أنَّ التاريخ قد ضنَّ علينا بخصومة حقيقية مع خصم له كاريزما حتى وإن بغى وقتل وغيَّب وظلم. حسنًا وإن كان هذا هو قدرنا، فلنعرف جيدًا أنَّ الأيام ستمضي، كل مافيها سيمضي، حلوه ومرُّه، ولن يبقى فقط إلا ما أنجزناه بصدقٍ في هذه الدنيا.. تحسسوا ما فعلتموه بصدق ثم انقلوه إلى أولادكم، ربما على المستوى الشخصي سأذكرُ تلك اللحظة التي استحييتُ فيها من مصرَ حين ألقيتُ منديلا في ميدان التحرير، فعاقبتُ نفسي حينها وقمت ومعي رفقاء الميدان بتنظيفه من كل المناديل في منطقتنا الصغيرة.

ممتن أنا لهذا الشعور الذي حاولوا في مناهجهم الدراسية الفاشلة أن يغرسوه دونما جدوى، ممتن للوطن الذي كان في مربعي الصغير في الميدان، في ابتسامةِ الصغار، في جنون الشباب وطيشهم غير المضمون. ممتن لينايرَ الممطرِ جدًّا الذي عوضنا عمَّا نراه الآن من عواصف وجفاف.. ممتن لكلِّ ما رأيتُ فيه ذلك الذي يسمونه وطنًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد