رمضان هو شهر الانتصار على النفس وشهواتها، الانتصار على شهوتي البطن والفرج، يكبح فيها المسلمون لجام هاتين الشهوتين، فيمنعانهما عن الحلال من الفجر إلى المغرب، فيعتادون على تلك القوة التي يكسبونها من الصوم في إرغام النفس على التخلي عما تحب وترغب، هذا في الحلال، فيكون إرغامها على التخلي عن الحرام أيسر وأسهل.
فلما كان رمضان فرصة للمسلمين للتدريب على هذا النوع من الانتصار، ولما نجح المسلمون الأوائل في ذلك، أنعم الله عليهم بالانتصار على عدوهم، فكان الدرس الأول لهم أن الانتصار على النفس أول طريق النصر على الأعداء، فكان شهر رمضان على مدار التاريخ شهر الانتصارات على أعداء الإسلام في شرق الأمة وغربها.
فكان في رمضان أول لقاء كبير وهام بين الإسلام والكفر، بين من يحملون راية بناء دولة الإسلام وبين هؤلاء الذين عاندوا وكابروا وكفروا وأصروا على استئصال شأفة الإسلام ودعوته وحملة رايته. كانت غزوة بدر الكبرى، في السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، أثلج الله صدور المؤمنين بالفرقان العظيم بين الكفر والإيمان، وأفرح قلوب المسلمين برؤية مصارع رؤوس الكفر والشرك، ورفع من معنوياتهم بعد أن ذاقوا من الظلم والاضطهاد ألوانًا وألوانًا.
وفي العام الثامن للهجرة وفي رمضان أيضًا أنعم الله على المسلمين، والمهاجرين منهم خاصة، بالفتح الأعظم، وحقق لهم حلمهم الكبير، وطمئن قلوبهم بعد أن كانت مضطربة طوال كل هذه السنوات التي كانت أم القرى وأحب بلاد إلى الله وأحب بلاد الله إليهم كانت ما زالت تحاربهم وتعاندهم، ففك الله أسرها من تلك الزمرة الكافرة، وكان الفتح الأحب إلى القلوب، فكان «فتح مكة».
وفي رمضان من العام الحادي والتسعين من الهجرة، أتم الله على المسلمين نعمته بتحقيق حلمهم بفتح الأندلس، ذلك الحلم الذي داعب أحلامهم عقودا طوالا، وكان التشريف للقائد الفذ طريف بن مالك قائد أول سرية استكشافية في هذا الفتح العظيم، وتمت تسمية أول موضع تطأ فيها أقدام الفاتحين باسم «جزيرة طريف»، ثم كان الفتح من نصيب القائد المسلم العظيم طارق بن زياد، وخلد ذكراه حتى الآن «مضيق جبل طارق»، ثم أتى قائدهم الملهم موسى بن نصير ليتوج هذا الفتح.
وفي رمضان من عام 223هـ، كان من الله لعباده المؤمنين نصر عظيم، كان ذلك في فتح عمورية، والفتح له قصته التي تذهل قارئها. بلغ المعتصم أن امرأة أسيرة في أيدي الروم صاحت: وامعتصماه! فنهض مجيبا: لبيك لبيك! وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد عبدالرحمن بن إسحاق، وشعبه بن سهل، ومعهما 328 رجلًا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثًا لولده، وثلثًا لله تعالى، وثلثًا لمواليه، وقيل أنه لما أراد الخروج حذره المنجمون من الخروج، فلم يلتفت لتخرصاتهم، وعزم على الخروج؛ فأظفره الله تعالى ونصره، وفي ذلك يقول أبو تّمام:
السّيف أصدق إنباءً من الكتب
في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
وفي يوم الجمعة السادس من شهر رمضان عام 455هـ، كانت المعركة التاريخية التي خلدها التاريخ وحفرها في ذاكرته، إنها موقعة ملاذكرد، تلك المعركة التي قادها القائد المسلم رمز الشجاعة والإقدام، القائد ألب أرسلان، كتب الله له النصر بجيش قوامه بين 15 ألف من المسلمين، منهم ما يصح أن نطلق عليه «القوات الخاصة» وهم 4 آلاف، على جيش من البيزنطيين الصليبيين قوامه 300 ألف، وبتوصية لألب أرسلان من شيخه، كانت المعركة يوم الجمعة بعد الزوال بساعة، حيث يكون الملون في المساجد والخطباء على المنابر، فيدعو الجميع رب العزة، فيكون ذلك الدعاء أقوى سلاح يركن إليه ألب أرسلان في معركته، وقد كان أن نال المسلمون مبتغاهم ونصرهم الله وهم الفئة القليلة، على أضعاف أضعافهم من الكافرين وهم الفئة الكثيرة.
وفي يوم السبت العاشر من رمضان عام 1393هـ السادس من أكتوبر عام 1973م كان نصر الله على المصريين يؤازرهم إخوانهم السوريون، على الصهاينة اليهود الذين احتلوا سيناء في مصر والجولان في سوريا بعد هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967م النكراء. كانت الحالة النفسية العامة للشعبين في أشد حالاتها يأسًا وحزنًا، بعد أن منيت البلاد بهزيمة في ستة أيام متتالية حطمت الآمال، فكيف يأتي النصر على يد قادة لم يستطيعوا أن يحركوا طائرة واحدة من مكانها قبل أن يسويها العدو بالأرض؟ ثم جاء رمضان بالخير، وحاول الجيش أن يعيد رفع الروح المعنوية لدى الجنود، فكانت جهود «الشؤون المعنوية»، ولم يكن أكثر من الجهاد في سبيل الله محفزًا ومشجعًا، وزاد تأكيد الأمر بكلمة السر «بدر» والشعار «الله أكبر» والموعد «رمضان»، فأراد الله أن يثلج صدور الملايين من العرب والمسلمين بنصر رفع رؤوسهم بعد انحناء دام ست سنوات، بعد هزيمة نكراء استمرت ستة أيام، بنصر لم يزد عن ست ساعات فقط، فلله الحمد أولًا وآخرًا.
رمضان دائمًا وأبدًا شهر الانتصارات، انتصار على النفس، وانتصار على الشهوات، وانتصار على أعداء الدين والوطن. ربما شاء الله له ذلك فرفع قدره وأعز شأنه في قلوب المؤمنين جميعًا. نسأل الله ألا ينقضي رمضان هذا العام إلا وقد أزال الله الغمة وأزاحها عن صدور المسلمين، والإنسانية جمعاء، اللهم اشف كل مريض، وسلم كل صحيح، وارزقنا علما وقدرة لإنتاج ترياق وعلاج لهذا الفيروس اللعين الذي لم يرحم عبادك وعبيدك، إنك على كل شيء قدير.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست