شاهدت فيديو تجربة اجتماعية قامت بها «شوف تيفي»، تروم من خلالها اختبار ردود أفعال المارة لدى رؤية شخص يشرب الماء في الشارع العام المغربي.
لم تدهشني مواقف الناس، فمنهم من حاول تقديم النصح بليونة، ومنهم من كان تدخله أكثر خشونة، بينما العديد اكتفوا بمعاينة الرجل وهم ماضون في طريقهم.

راودتني فكرة استبدال الممثل بممثلة لأداء نفس الدور، حينها ربما قد تتباين المواقف بشكل طريف.
لكن الأمر الذي لطالما استوقفني في مثل هذه الحالات (حين يتجرأ بعض المواطنين «الغيورين على الدين» إلى التدخل إعمالا بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، هو التناقض البنيوي الحاصل في المجتمع المغربي الذي لم يحسم بعد في مسألة تبني العلمانية، فهو ضائع بين موجة الحداثة والمشترك الديني الذي تشبعت به الثقافة الشعبية منذ القديم.
فنفس الشخص الذي يجد مشهد شارب الماء في رمضان «مستفزًا»، لا يمانع مشهد فتاة شبه عارية أو بملابس مثيرة تمر أمامه في نفس الشهر، وهو لن يتدخل حينها لأنها «حرية شخصية»، رغم أن درجة الامتعاض التي تُخلف في نفسيته قد تكون أشد.

وربما لن يتدخل أيًضا لسبب أكثر واقعية، وهو الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرم الإفطار العلني، ما يعطي «الصلاحية» لمن هب ودب لتقمص دور الواعظ، حتى لو كان يأتي هو نفسه بفعل أفظع من الذي يناهضه. لا أريد الغوص في قضية الفصام (السكيزوفرينيا) التي تعيشها فئات عريضة من المجتمع بسبب العولمة وعدم اليقين والحيرة الأخلاقية التي تجعل المرء متذبذب المواقف، متضارب المبادئ، يغير رأيه في الشيء حسب عدة اعتبارات، منها المصلحة الشخصية أو الخوف من نظرة الآخر … .

ولا يجب إغفال أن حالة الفوضى الإيتيكية التي نعيشها هي وليدة المُشرّع أيضًا، فمن يسّن القوانين يتبنى «إرضاء الجميع» أولًا ثم «حفظ المصالح العليا» ثانيًا، فطالما كان قانون حظر الأكل العلني يساير النزعة الدينية التي تنتاب الأفراد في رمضان ويحافظ على هدوء الأغلبية الشعبية، محققًا بالتالي نوعًا من استتباب الأمن، فهو ليس إلى زوال أبدًا. فمن مصلحة الدولة مجاراة تمثلات الممارسات المتعلقة بالموروث الديني حتى لو لم تكن تؤمن بفحواها الروحية، ما دامت ستورثها تعاطف وتزكية المواطنين، منقذة بذلك الخيط الرقيق الواصل بين كون المغرب دولة إسلامية على الورق وما هو عليه في الواقع المجرد.

بالمقابل، في إطار «حفظ المصالح العليا»، فلن نجد الدولة مدافعة عن «مظاهر التدين» حين يتعلق الأمر بالسياسة والاقتصاد والأمن، فالعري والخلاعة على الشواطئ والدعارة والملاهي الليلية وبيع الخمور والسجائر … كلها أشياء مباحة لأن السياحة مورد اقتصادي مهم ولأننا «بلد ديموقراطي حداثي منفتح ثقافيا ويحترم الحريات»، و مادامت أموال الضرائب تجنى بانتظام، فتلك المشاريع جائزة.
ومن منطلق الحديث عن الحرية والمساواة أتساءل: لماذا لا يسمح للمحجبات بولوج العديد من المناصب فقط لأنهن يضعن غطاء للرأس؟ خصوصا إذا تعلق الأمر بالظهور للعيان، كموظفات الاستقبال ومذيعات نشرات الأخبار… .

لماذا لا يسمح للمنخرطين في صفوف الأمن ومقدمي نشرات الأخبار بإنبات اللحية؟
لماذا يسمح للنساء بارتداء التنانير القصيرة للعمل بينما يمنع لبس «الشورت» (وإن كان يتجاوز الركبة) على الرجال؟… مع أن «ستر العورة» هنا أوجب «دينيًا» على النساء من الرجال …. بل انقلبت الموازين، فحتى الجزء العلوي من الجسد يرخص للنسوة إبداء ما أردن منه في الشارع وأماكن الشغل دون اعتراض أو إحراج، بينما الرجل الذي تبدأ عورته عند السرة فقط، سيتلقى توبيخًا إن ارتدى قميصًا فتحت بعض أزراره، يكشف الصدر.

أعرف أن تساؤلاتي مظهرية سطحية، لكنها تبرز ما نتخبط فيه من حيرة فكرية نتاجها مقارنة ما هو كائن وما يجب أن يكون، فنحن محكومون بالمنطق الاقتصادي الذي تنصهر في طياته كل الأعراف والتقاليد، ولا يمكن مواكبة سياقاته إلا بالإذعان لشروطه، ومنها مثلا الـ dress code والإتيكيت كقول Bonjour عوض «السلام عليكم» …، وكلها عوامل مؤثرة في الهوية الفردية حيث يجد المرء نفسه يعيش كل يوم في عالمين متضادين أيديولوجيا، حتى لو كان نطاق تنقله منحصرًا بين البيت ومقر العمل.

المزاوجة الناجحة بين الأصالة والمعاصرة تتطلب في نظري إعطاء نفس هامش الحرية لكل من أراد الالتحاق بركب إحداها دون إقصاء أو تضييق. أما بالنسبة لذاك الذي يعنف ويعترض سبيل شارب الماء بحثًا عن الأجر والثواب، فأنا أحثه على مساعدة شخص عجوز يحمل ثقلًا أو إماطة الأذى عن الطريق أو التصدق على مسكين، سيكون ذلك تصرفًا أخْير وأكبر منفعة.
والله أعلم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد