التراث الإسلامي يُعير رأس السلطة اهتمامًا خاصًا، ويرى أنه أساس صلاح البلاد والعباد, فلكي تصلح مجتمعًا وتضعه على طريق النهوض والتقدم اِعمل إلى إصلاح سلطته، وأن يتولى القيادة فيه أهل الكفاءة والصلاح السياسي والإداري والقيادي, فمهما كانت المجتمعات صالحة ولم يصل لسُدة الحكم فيها أهل الكفاءة والصلاح ستتغير هذه المجتمعات مع مرور الوقت
وأكثر عوامل إفساد المجتمعات هي انتشار الظلم والاستبداد والقهر, هي عوامل فتاكة بمرور الوقت تقتل كل الجينات العظيمة التي تمتلكها المجتمعات.
ومع النظر في تراثنا تستطيع أن تخرج بنماذج كثيرة على عناية هذا التراث برأس السلطة واهتمامه به, وتحري الصلاح والعدل في شِيمه, ومن هذه النماذج:
الفاروق ووالي البصرة:
بعث الفاروق “عمر بن الخطاب” رسالة إلى “أبي موسى الأشعري” وكان واليه على البصرة, يقول له فيها: “أما بعد فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته, وإن أشقى الرعاة عند الله من شقيت به رعيته, إياك أن ترتع فيرتع عمالك, فيكون مثلك عند ذلك, مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض، فرتعت فيها, تبغي بذلك السمن, وإنما حتفها في سمنها أتسلم؟”.
يا أبا موسى لا ترتع فيرتع عمالك وصية الفاروق, فالأساس هو رأس السلطة, أن صُلح واستقام ولم يرتع ولم يسرق ولم يظلم ولم يغش وكان عدلاً أمينًا, كانت رعيته على شاكلته.
فالفاروق هنا يوضح الدور المحورى الذي يلعبه الحاكم في هذا الموضوع, فلو كان المؤثر الأكبر هم الشعب والمحكومين, لطالب واليه أن يعمل على إصلاح شعبه وتهذيبهم, وأن يطلب من رجال الدين وأهل العلم والتربية أن يربوا الرعية, لأنهم إن تربوا جيدًا وأصبحوا صالحين، فسيكون الوالي صالحًا وعدلاً لا محالة.
ولكن الفاروق بعلمه وعدله, عرف من أين تُؤكل الكتف, وأن مربط الفرس هو الحاكم والوالي, فبصلاحه تنتهي كل الأمور وتحل كل المشاكل, ولذا كان يدقق فى اختيار عماله وولاته على الأمصار, ويتابعهم ويحاسبهم ويتتبع أخبارهم مع شعوبهم
ولهذا قال “عمر بن الخطاب” عندما طُلب منه أن يتمنى: “ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبل ٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعملهم في طاعة الله.”
الإمام علي وجواهر كسرى:
وفي هذا السياق نفسه, وبالمعنى نفسه أيضًا, قول سيدنا “على بن أبي طالب” لسيدنا “عمر بن الخطاب” في حادثة جواهر سيف ملك كسرى: “إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدّوا إليك الأمانة, ولو رتعت لرتعوا.”
فالإمام علي يرى أن الأساس هو أمانة (عمر) وعدله, ومن هو (عمر) هو الحاكم والمسئول السياسي الأول عن البلاد, وكانت نتيجة هذا العدل والأمانة عند المسئول الأول, أن أصبح أفراد الشعب -القاعدة العريضة من الجماهير- على شاكلة المسئول, ومن طينته نفسه.
ولو كان غير هذا لقال له الإمام (علي) , أن سبب أداء الأمانة هو أنهم مؤمنون, وهم من رباهم النبي على الصلاح والتقوى, فمن الطبيعي أن يفعلوا ذلك.
لكن الإمام (على) عزى ما حدث إلى صدق الحاكم وأمانته وعدله, وليس إلى تقوى الشعب وإيمانه.
أبو مسلم الخولاني والخليفة معاوية:
الحادثة الشهيرة التي وقعت بين “أبى مسلم الخولاني” والخليفة “معاوية بن أبي سفيان” , التي قال فيها “أبو مسلم الخولاني” للخليفة: “السلام عليك أيها الأجير”, ودار لغط فى حاشية الخليفة ليغير الكلمة إلى: “السلام عليك أيها الأمير”، فرد عليهم الخليفة قائلاً: “دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يريد”
في نهاية الحوار هذا يقول “أبو مسلم الخولاني” مقولة مهمة جدًا وهي: “…. يا معاوية: إنا لا نبالى بكدر الأنهار إذا صفا لنا رأس العين”.
بمعنى أنه إذا صفى المصدر والأساس والرأس, لا نبالي إذا كانت الفروع والقواعد مكدّرة, بمعنى أكثر وضوحًا أنه إذا صفى ونقى رأس السلطة, فلا يهم بعدها نقاء القاعدة, لأنها بالتلازم والتتابع سوف تصفو وتصبح سليمة، وحتى لو بدت غير ذلك.
فلكى تُصلح الشعوب والقواعد والمحكومين -الذين شبههم “أبو مسلم الخولاني” بالأنهار- فعليك النظر إذن إلى رأس السلطة الحاكمة المسيطرة على هؤلاء -الذين شبههم بعين الماء- فهى الأكثر تأثيرًا,
فنحن لا نبالي ولا يهمنا ما دامت العين صافية غير مكدرة؛ لأنه بصفائها تصفو معها الأنهار بالتتابع والتلازم أيضًا، حتى وإن صاحبها زبد, فهو حتمًا زائل مع مرور الوقت, والعكس صحيح كذلك, فلو تكدرت العين فحتمًا ولزامًا سوف يتكدر النهر, حتى ولو تأخر التكدير قليلاً فهو واقع لا محالة.
رشيد رضا والكواكبي والفساد السياسي:
يقول الشيخ “رشيد رضا” في تفسير “المنار”: “وأساس الفساد الاجتماعى إنما هو الفساد السياسي, لقوله تعالى { وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) } , وقوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ }”.
فالفساد السياسي مسئول عنه الحاكم بحكم عمله, والفساد السياسي ما هو إلا الاستبداد والظلم والقهر, فمع وقوع هذه الكوارث الثلاث وقع الفساد السياسي, ولازمه الفساد الاجتماعي من ضياع للأخلاق وانهيار للأمم علميًا وأخلاقيًا وسلوكيًا, وركبت ذيل التخلف, وأصبحت في عداد موات الأمم.
وانظر كذلك معي في ترتيب الآيات – خاصة في قصة فرعون- فالقرآن لا يقدم ولا يؤخر إلا لعلة, فهذا كلام الله العالم ببواطن الأمور, فالله عزوجل بدأ بالطغيان والظلم والاستبداد في البلاد , ثم أتبع هذا بالفساد, فكأنك تشعر أنه بالطغيان تفسد الأمم وتضيع, ولا يحدث الضياع والانهيار إلا بحدوث الطغيان السياسي.
ولقد ربط “عبدالرحمن الكواكبي” في كتابه “طبائع الاستبداد” بين الاستبداد وتدهور الأخلاق فقال: إنه يؤثر على الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، وأن أسير الاستبداد لا يملك شيئًا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالاً غير معرض للسلب ولا شرفـًا غير معرض للإهانة،
وأقل ما يؤثره الاستبداد فى أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، وأنه يعين الأشرار على إجراء غَىّْ نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية.
ومن غير الحكام هو المسئول عن الاستبداد؟! ومن غيرهم هو الذي يقوم به, ويأمر به, ويعمل على جعله سياسة دولة وحكم؟!
الليث بن سعد وصلاح مصر:
وأختم هذا الجزء من كلامي بمقولة مهمة جدًا, تخص مصر وشعبها بالتحديد, وهي لواحد من فقهاء مصر العظماء وهو “الليث بن سعد” وأنقلها لكم بنصها كما وردت في كتب الآثار:
“حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، يَقُولُ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، قَالَ لِي: يَا لَيْثُ, مَا صَلاحُ بَلَدِكُمْ؟ قُلْتُ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, صَلاحُ بَلَدِنَا بِإِجْرَاءِ النِّيلِ, وَإِصْلاحِ أَمِيرِهَا, وَمِنْ رَأْسِ الْعَيْنِ يَأْتِي الْكَدَرُ, فَإِذَا صَفَا رَأْسُ الْعَيْنِ صَفَتِ السَّوَاقِي, فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا الْحَارِثِ”
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست