يعتقد بعض الناس أن التاريخ مجرد قصص غابرة ليس لنا علاقة بها سوى التنّدر على حكايتها، أو البحث النظري العقيم لأمر يخص الدارسين لمادة ثقيلة الظل، وأحيانًا ينظرون للتاريخ على أنه مجموعة تواريخ وأحداث وطنية يتخذها العوام للزهو والخيلاء بمجد زائل.

والحقيقة أن كل هذا ليس له علاقة بعلم التاريخ، فأثر التاريخ هو تجسيد الوعي عن الذات الحقيقية لأمة ما في عقول أبنائها وزيادة الوعي السياسي والوطني لدى أجيال لاحقة، وأن الأمة التي لا تعرف تاريخها لن تطور حاضرها وبالتأكيد ليس لها مستقبل مستقل، وتاريخ الشعب يشكل وجدانه الحضاري وضميره ومؤثرات عقدة الاجتماعية وسمات المجتمع بشكل أعم، ومنه يستمد العون لتقديم الحلول وتفادي الأخطاء وتعلم كيفية التعامل مع محركات الشعب لتقدمه وتحفيز أفضل ما فيه وتجنب أسوأ ما فيه.

ومن ناحية المناهج المدرسية التي توضع لمادة التاريخ عندنا وفي أفكارنا فيكاد يكون شعارها كيف تصنع منهجية للتدليس التاريخي للطلاب والعقم المعرفي لفكرهم، فإن لم يتخرجوا كارهين لكل تلك التواريخ المحشوة في أدمغتهم ويلفظون السطور العقيمة التي تفتقد للرؤية والتحليل والنقد؛ سيتوجهون لبناء رؤية ووعي مغلوط في التاريخ وفي السياسة والوطنية بل وأشياء أخرى تخص عصب مجالات العلم الإنساني ومعالجة الواقع، لا سيما عندما نجد قادة سياسيين وعسكريين جهلاء بالتاريخ، وقتها سنرى بأم أعيننا مكمن التخلف والفقر واللاانتماء والفشل السياسي والعام كما نراه الآن.

وتبدأ إعادة بناء التاريخ وبعثه من خلال التعليم أولًا ولكن إلى أن يحدث ذلك إن حدث! يبقى لنا ما نقدر عليه نحن كقارئين للتاريخ هل نستطيع أن يكون لدينا وعي تاريخي صحيح رغم ما تلوثت به عقولنا من تاريخ مدرسي مزور وعقيم؟

لنقول بتفاؤل واقعي أنه باستطاعة محبي التاريخ والمعرفة خصوصًا العاملين في العمل العام والإصلاح السياسي أن يعيدوا قراءة التاريخ بقواعد جديدة ممكن أن تجعل لديهم الوعي التاريخي المطلوب.

أولًا: عليكم بنسيان التاريخ المدرسي وإلقاء الروايات الرسمية في أقرب صندوق قمامة، نعم لا تُبقِ في عقلك أي معلومة قديمة حتى ولو تثبتت من صحتها فيما بعد! فالأهم أن تفرغ سلة البيض كاملة لتختار منها بعناية السليم الذي يجب أن تحتفظ به وتتخلص بوضوح من الفاسد؛ ذلك يشبه منهج الشك المنهجي «الغزالي/الديكارتي» ومن الجيد استخدامه في معتقداتك لتصحيحها وفي كل أنواع التاريخ لإنهاء الجهل والتدليس من وجدانك وخلق وعيك التاريخي ومن ثم السياسي.

ثانيًا: عليكم أن تكونوا نقادًا من العيار الثقيل لا تقبلوا رواية مؤرخ بدون تشكك وتحليل ومقارنة بغيرها، فوحدها العقليات النقدية هي التي تصل لوجهة نظر تاريخية أقرب للحقيقة، ولنتأكد بألا يوجد ماهو «مقدس» في علم التاريخ، فجميع الروايات تخضع للقبول والرفض سواء كان تاريخًا إسلاميًّا أو مصريًّا قديمًا أو حديثًا أو تاريخ سياسي أو عسكري، يبقى لنا التقريب بين الروايات ولفظ المدلسين من المؤرخين ونقد الروايات الرسمية والمعرفة بوجهات النظر المتقابلة ومن ثم الخروج بتاريخ يقترب من العقل وتصدقه الأحداث والمعطيات وستصل لـ80% من الحقيقة التاريخية.

ثالثًا: ستجد من يقول لك بأن التاريخ مجرد «تدليس» بحت ولا يمكن أن أصدق أشياء مر عليها الآف ومئات السنين، فنحن يزوّر حاضرنا الذي أمامنا فكيف لك بمعرفة الماضي؟!

قطعًا هذا شخص يفتقد لأي معرفة بقيمة علم التاريخ وطرق تحصيله والاستفادة منه، وبالنسبة لفكرة التدليس والتي نقر بها فلابد أن يعلم هو والجميع بأنه لم يفقد التاريخ الإنساني حلقة من حلقاته رغم كل ما يزوره الرسميون والمزورون والمنتصرون ليشوهوا الخاسرين، لقد بقي التاريخ الحقيقي يشوبه بعض التزوير دون فقد أغلبه وهذا المهم، لقد تبقى لنا مؤرخون ثقات يغردون خارج السرب ويحققون رواياتهم بطرق أقرب للتصديق العقلي الفاحص لما يكتبونه، ولا تغيب الحقيقة أبدًا عن صفحات الكتب الأشهر والأوثق ولا عن وثائق التاريخ القديم والحديث التي يستقي منها المؤرخون منبع علومهم بطرق منهجية تقوي روايات وتضعف أخرى، بدليل أنه الآن بعد آلاف السنين على ثورة إخناتون الدينية وتحطيم كل معالمها جميعنا يعرف أنها حدثت وماذا كان ينادي به إخناتون، وكذلك نحفظ عن ظهر قلب قصة حتشبسوت رغم اغتيالها وطمس تاريخها من قبل غريمها ابن زوجها الملك المحارب تحتمس الثالث، ونعرف تزوير معركة قادش رغم اجتهاد رمسيس في تصوير انتصاره الحاسم على كل المعابد!

وفي التاريخ الإسلامي يعرف المحققون قصة إنهاء الخلافة الراشدة ومعارك الإمام علي ومعاوية واستبداد معاوية ونسله الاموي رغم اجتهاد إجماع أمة المسلمين على إخفاء الحقيقة تحت مسمى “الفتنة الكبرى”!

ولو قسنا نفس الأمر على التاريخ الحديث كل القارئين للتاريخ القريب يعرفون حقيقة النظام الناصري وما أدراك بالعهد الناصري وأغانيه وأمجاده المفبركة التي اجتهد حتى آباؤنا في تلقيننا إياها، ومع ذلك عرفنا الحقيقة رغم إنكارهم!

وفي حرب أكتوبر التى نحتفل سنويا بها حتى الآن، حفظناها من الرواية الرسمية ونقدناها من وجهة النظر المواجهة لها، كما أتيح للسادات ومبارك التزوير أتيح للشاذلي والجمصي وأبوغزالة التوثيق والتدوين، وكما يكتب التاريخ أبناء بلد ما يكتب التاريخ أعداؤهم ويوثق التاريخ الإنساني العالم أجمع وتتعدد المصادر من الداخل والخارج ودور القارىء ومعلم التاريخ والسياسي والمصلح أن يقارن ويبحث ويصل للحقيقة التي لم تزور في أغلبها.

اخيرًا: لاتوجد معرفة تاريخية سليمة دون وعي عام وعقلية ترتب الأحداث التي تقرأها بعناية لتحليل الكلام وغربلته والاعتماد على القريب من الواقع الذي ترتب عليه أحداث بعده ساهم الماضي بأسباب في حدوثها، وعليك أن تعرف أثر التاريخ على واقعك فالمهم والمُلهم من قراءة التاريخ ليس استمرار شغف المحبين له بقدر الاستفادة منه لتنمية الوعي وتقديم حلول للمشكلات وبناء صورتنا القومية الحقيقية بعيدًا عن كتابة الغرب والأعداء لتاريخنا لنكتب نحن تاريخنا بأيدينا، وكفانا اعتمادًا على الآخر وكأننا نأتي بعدونا ليقول لنا هذه هي ملامحك وطباعك!

فصناعة جيل من الشباب والنخب في كل المجالات لديهم وعي تاريخي حقيقي تجعل الأمة لها صورة حضارية مستقلة وواضحة وتتيح لكل جيل إضافة إسهاماته الحضارية لوطنه.

فالمهم في التاريخ ليس معرفته كحوداث بقدر تعريف الأجيال على كيفية قراءته والاستفادة لحل مشاكلنا من الجذور والابتعاد عن الوصايا وتزوير المنتصرين والحكومات فلا قداسة لرواية تاريخية إن جانبت الحقيقة، فهو علم ظني الثبوت لا قداسة فيه إلا لحكم العقل والواقع.. ولتكن قاعدتنا في التاريخ قول ابن النفيس: «وأما الأخبار التي بين أيدينا إنما نتبع فيها غالب الظن لا العلم المحقق».

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

تاريخ
تحميل المزيد