القرآن الكريم مصدر التلقي والتنشئة والتربية، وبناء الذات، وتصحيح المسار، والفكر والاستلهام لدى المسلم، وخاصةً ونحن في شهر الصيام الذي يسمى شهر القرآن؛ إذ يعيش المسلم أكثر أوقاته المنتجة مع ترتيل آياته، وتدبر معانيه، والتحلي بأوامره ونواهيه، ومن الآيات التي استوقفتني هذه الآية الكريمة رقم 148 من سورة النساء: «لايحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم»؛ فأردت بيان ما لاحظته فيها.
تفسير الآية باختصار:
يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح، والأقوال السيئة إلا في حق من عظُم ضرره، وكثر مكره وكيده وظلمه وتعديه، فعند ذلك يجوز بيانه (ينظر: تفسير مفاتيح الغيب للرازي: 11/235).
مفهوم (السوء من القول):
فصل المفسرون في بيان معنى السوء من القول: فمنهم من يشير إلى جواز الدعاء على الظالم، ومنهم من يقول بأن للمظلوم بيان الظلم الذي وقع عليه؛ بأن فلانًا ظلمني؛ غصب مالي وما إلى ذلك، ومنهم من ذهب أن للمظلوم بيان ونشر فضائح وقبائح الظالم وتشويه سمعته.
استنتاجات من الآية الكريمة
1-القاعدة العامة التي يتربى المسلم عليها: هي الكلمة الطيبة، والقول الحسن الجميل؛ فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن تخرج وتظهر كلمة سوءٍ من فمك؛ فالذي يتربى على مائدة القرآن الكريم، والسنة النبوية، وتَشرّب من قوله تعالى: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ» [سورة إبراهيم: 24]، وأيضًا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» (رواه الترمذي والحاكم)، فديدنه الكلمة الطيبة والألفاظ الإيجابية.
2- استثنى الله – خالق الإنسان الذي يعلم كنه الانسان ونفسيته: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» [الملك:14] – المظلوم من الخروج عن القاعدة، فيحق له أن يتلفظ ويتفوه بكلمات جارحة، ويُخرج شكواه عاليًا إلى السماء ضد الظالم؛ لتكون بمثابة تنفسٍ له تحت وطأة الظلم.
3-هذه الآية كأنها دعوة للأحزاب السياسية، والجمعيات المدنية التي تنادي بحقوق الانسان؛ ببيان ظلم الحكومات بألفاظ تشفي قلوب المظلومين، وتجرح صدور الظالمين كالكلمات التي تقال(سارق- نشال – فاسد – كذاب – ظالم..) وأمثالها.
4-وكذلك هي دعوة للمظلوم أن يبين للعالم مظلوميته، ولا يسكت عنها ولا يخبأها؛ بل له أن يظهرها بأبلغ الكلمات، وإن كانت جارحة أو قبيحة ومهينة في حق الظالم، عبر كافة وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة؛ وخاصةً ما يسمى بـ(السوشيال ميديا).
5-النقطة الدقيقة: يجوز الجهر بالقول السوء لا الفعل السوء؛ فلا يجوز الإقدام على الأفعال التخريبية والجرائم الإرهابية تحت ستار المظلومية؛ فالشر لا يُردُّ بالشر؛ الذي يحرق الرطب واليابس.
6-يجوز لكل فرد في الأسرة أو المجتمع، أو في حزب أو جماعة أن يرفع صوته وشكواه من ظلمٍ وقع عليه بأي أسلوب من الأساليب؛ حتى وإن كان فيه جرح للظالم؛ أياً كانت مرتبة الظالم ومستواه.
7-هذه الآية تجعل المجتمع حساسًا تجاه هضم الحقوق وهدرها، وأيضًا تربي المجتمع على عدم القبول بنشأة الظالمين، واستخفافهم بحقوق أفراد المجتمع؛ قال تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه..».
-وأخيراً أرى أن أجمل تفسيرٍ للآية هو لشهيد القرآن سيد قطب -رحمه الله – إذ يقول: «والجهر بالسوء عندئذٍ يكون محدد المصدر، من الشخص الذي وقع عليه الظلم، محدد السبب؛ فهو الظلم المعين الذي يصفه المظلوم؛ موجهاً إلى شخصٍ بذاته؛ هو الذي وقع منه الظلم.. عندئذ يكون الخير الذي يتحقق بهذا الجهر مبررًا له، ويكون تحقيق العدل، والنصفة هو الهدف لا مطلق التشهير.. إن الإسلام يحمي سمعة الناس- ما لم يظلموا – فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية، وأُذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه، وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كف الألسنة عن كلمة السوء.» (في ظلال القرآن – سيد قطب:2/796).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست