منذُ قدومي إلى تركيا لفتَ نظري انتشارُ النَّوادي القرائية الخاصة بفروعِ الاتحادات الطلابية – اليمنية على وجه الخصوص – في جميعِ المدنِ التُّركية.. في كلِّ مدينةٍ يبرزُ منها من يحملُ مشعلَ التنوير والوعي، ويسهمُ في إنشاءِ نادٍ للقراءةِ مع ثلةٍ من الأصدقاء.
تتفاوت قدرات النوادي من نادٍ إلى آخر، من خلالِ نوعية الطلاب المتواجدين فيها.. لكنَّ الجميع يسعى إلى الخروج من شرنقةِ الغياب والجهل.. والانطلاق إلى فضاءِ المعرفةِ الواسع!
إنَّ من أكثر العقبات التي تقفُ في وجه النوادي واستمرارها؛ غياب المنهجية التي يسيرُ عليها، والتخبط في اختيارِ نوعية الكتب، وتغليب مصلحةِ الفرد على مجموعِ الطلاب، من خلال اختيار كتبٍ بعينها تصبُّ – أحيانًا – في اتجاهٍ واحد لا يخدم الجميع.. وللخروج من دوامة الاختيار؛ يجدر بالقائمين على النوادي أن يستشيروا بعضًا ممن لهم خبرةً في مجالِ الكتب، وطبيعتها، وفنون المعرفة وآفاقها.. ومن ثمَّ التوافق على قائمة تضمُّ كتبًا تكفي لعام واحد، ثم البناء عليها، في العام الذي يليه.. والاستمرار في الترقي المعرفي والثقافي وفق هذه الآلية.
قد يعتقدُ بعضهم أنَّ النوادي القرائية مجاراة للموضةِ التي ظهرت مؤخرًا، ونحنُ لا نجدُ في ذلكَ غضاضة، فلتكن موضة، أو لتكن محاولةً للبروز والظهور، كل هذا لا يهم؛ لأنَّ ما يهمنا حقيقة؛ أنَّ القراءة، والدخول في عالمها العظيم، ستنزعُ عنك هذه الأفكار التي تتلبسكَ ابتداءً.. ستخرجُ لا محالة من فكرة الموضة الفكرية، والخروج على الآخرينِ بصورةِ المثقف، الذي يعرفُ أسماء الروايات، وبعض الكتب المشهورة.. إلى قارئٍ حقيقي، وصاحب قلقٍ معرفي، لا تنفكُّ تدع الكتاب حتى يأخذك إلى كتابٍ آخر، وما بينَ الكتابينَ تولد فكرة، وتتوطن لديك بعض الحقائق.. التي مفادها أنَّ الوقت غير كافٍ لإتمام كل الكتب التي ينبغي أن تقف عليها في هذه الحياة القصيرة.
ويحضرني جيدًا ما كتبه العقاد صاحبُ العبقريات.. حين قال:
«وإنما أهوى القراءة لأنَّ عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقاديرِ الحساب».
إنَّ انكباب الطلاب والتحاقهم بالنوادي القرائية؛ مؤشر جيد على ارتفاع منسوب الوعي في هذا الجيل الصاعد، وفهمه لحقيقة القراءة التي تسهمُ في بناءِ ونهضة الأمم والشعوب، وقراره للخروج من دائرةِ المفعول به إلى الفاعل، من خلال المشاركة في توجيه المعرفة، ومناقشة الفكرة، وقبولها ورفضها، وبيان مكامن القوة والضعف.. وتقييد الملاحظات، وكل هذا سبيل لتكوين القدرة التحليلية عند الطالب، وقدراته النقدية، وتنمية للأفكار الإبداعية التي قد تؤتي ثمارها في وقتٍ لاحق.
قبل فترة وجيزة كنتُ مشاركًا في ملتقى نهضة وطن الطلابي بنسخته الثانية.. في مدينة «آيدن»، كان العديد – من الطلاب – يسألني عن بعض الكتب، والبناء المنهجي، والقراءة الواعية، وعن النوادي القرائية.. وأكثر ما لفت نظري؛ فتاة سألتني عن التدرج في القراءة، ومن أين تبدأ، ثم تفاجأت أنها قرأت بعض الكتب الرَّصينة.. حتى الروايات التي قرأتها ليست من الصِّنف الرديء الذي لا يسمنُ ولا يغني من جوعٍ معرفي، بل يسهمُ أحيانًا في تلويث الذائقة اللغوية عندَ القارئ! شعرتُ حينها أننا أمام جيل قادر على الانبعاث من وسط هذا الرُّكامِ الموبوء، بفعلِ القراءة، والقراءة الواعية.
أدركُ أنَّ معارككَ في الحياةِ كبيرة.. لكن ثقْ أنَّ قراءة بعض الكتب أقوى من أي معركة.. وثق أنَّ اكتسابكَ واستعادتكَ لهويةِ القراءة، وإحاطة نفسك بالكتبِ الجيدة؛ هو بمثابة دخولكَ قلعة فسيحة منيعة تحجبُ غزو الظلام، ويهبُكَ إشراقًا يقيكَ من أغلبِ مآسي الحياةِ، وتقلباتِ الأيام.
آمل أن تمضي هذه النَّوادي في طريقها الذي وجدتْ لأجله، كما آمل أن لا تنطفئ، الانطفاءُ المعرفي مؤذنٌ بخرابِ الرُّوح، والمجتمعات، آمل أن تتَّقد شعلة التنوير والمعرفة في قلوبِ طلابنا، آمل أن نتوهجَ ونشرقَ بضياءِ اقرأ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست