«واتعلمنا لا أهمية للجوابات.. مع إن الجوابات دي يا فاطنة هيه البني آدمين».
جملة كتبها الخال «عبد الرحمن الأبنودي» شاعر العامية الكبير على لسان بطل جواباته الأسطى حراجي القط العامل بالسد العالي؛ ليخلد بهذه الملحمة ذِكرى بناء السد العالي في الستينات، ديوان رسائل حراجي القط ليست فقط مجموعة من الجوابات الشاعرية، بل هي ملحمة تؤرخ للتطورات الاجتماعية خلال هذه الفترة، وربما كان هذا سبب استمراره وجودها في ذاكرة القرّاء، السهولة التي كُتبت بها جعلت من العصيّ أن تنال منها ذاكرة النسيان العربية.
حراجي القط الذي يرحل من قريته «جبلاية الفار» في مدينة «السويس» تاركًا خلفه زوجته «فاطنة أحمد عبد الغفار» وأولاده «عزيزة وعيد»، ليبدأ بالانبهار بالتكنولوجيا الحديثة بداية من ركوبه القطر لأول مرة، واكتشافه لمدى صغر وضآلة قريته البسيطة:
«وبلدنا اللي كنا بنمشيها في نص نهار، كان القطر في لحضة.. فاتها بمشوار». ويتغيب الأسطى حراجي عن بلدته شهرين قبل أن يُرسل إليهم أول جواب، بعدما استقر قليلًا وعرف كيفية التعامل مع هذه البلد الفسيح التي يدعونها «أسوان» ليظهر دور البوسطجي الذي رسمه الأبنودي بمهارة متقنة، رغم أن صوته لا يظهر في الجوابات، إلا أننا ننتظر مع فاطنه في صحن البيت دخول البوسطجي السعيد المحمل بالأخبار التي تطئمن قلب أهالي القرية على ذويهم في السد العالي، وتبدأ فاطنة أول رسالتها بالعتاب على الغياب، وتقول: «شهرين يا بخيل.. ستين شمس وستين ليل؟» وهي جملة اشتهرت بين رواد وسائط التواصل الاجتماعي كاختصار بليغ للتعبير عن قسوة الغياب الذي اختبره معظم شباب اليوم أكثر من مرة بدلًا عن أيامٍ فائتة كان لا يختبر المرء فيها الغياب إلا لمامًا. وتتجاوز رسائل فاطنة وحراجي الشوق الغلاَّب: «وحكاية الشوق دي لا في الأيد… ولا ليها مواعيد» لسرد مشاعر المتغربين من أبناء القرى في العمل في السد العالي، من انبهار بجمال يرونه وبالعلم الحديث. وتوثيق مشاعر أهل القرى الذين تملك منهم الخوف: «طمنا عليك يا حراجي» ليطمئهنم في رسائله القادمة على مهاراته في استخدام «الدلاميت» – وهو الدناميت باللهجة الصعيدية – ويقول الأبنودي في أحد لقاءاته:
«مش أنا اللي أقعد ع القهوة زي المثقفين، أنا مرحتش أسوان عشان أكتب».
وربما هذا هو سرّ صدق هذه الرسائل، لما يكتبها الأبنودي بناءَ تخيلات أو حكايات، بل من قلب الحدث، صافح الخوف في عيون العمال بيديه، واحتضن العرق في قمصان الرجال بذراعيه، ثم نقل لنا الصورة بأقصر طريق ممكن… الشِعر.
ويمكنني تخيل مدى قسوة الشعور الذي مر به الأبنودي حين سُلب ابنه حراجي الأول، عندم تم القبض عليه وإيداعه في السجن إزاء اشتراكه في تنظيمٍ شيوعي وتم سلبه مخطوطات ديوانه، وبعدما تم الإفراج عنه بدأ يعيد كتابتها مرة أخرى يقول الخال:
«وفي الليل كانوا يشعلون لي اللمبة الجاز لأنكفئ على (الطبلية) وأكمل. أنجزت كتابة الديوان في أسبوع ودفعت به للمطبعة دون مراجعة وكأنه كان تحديًا لهؤلاء الذين اغتصبوا مني حراجي الأول الذي ما زالت بقايا تحسري عليه عالقة بنفسي، ولكن استقبال حراجي بتلك الحميمية الفريدة كان خير معين لي على نسياني حراجي الأول».
وتجسد هذه الملحمة الحب العذري العذب بين الرجل وزوجته كأفضل ما يكون، الحب الذي لا يعترف بالمظاهر ولا بعدد الهدايا والصور المختزلة على وسائل التواصل الاجتماعي، حاله كحال كل فئات البشر الذين عاشوا هذا العصر الصادق، حين كان التعبير عن الحب يتم بأبسط الكلمات الممكنة، وبالأفعال فحسب وحتى بين الكلمات كان الحديث عن الأفعال البسيطة، على لسان فاطنة:
«مش هتيجي يا حراجي؟ طالجالك في البيت فروج» فقط بهذه البساطة، أن تربي المرأة الدجاجات لحبيبها.. يجعلنا هذا نعيد النظر حيال المظاهر الكاذبة التي يرى الواحد يوميًّا.
ولم تؤرخ أو تتطرق الملحمة فقط للحب والعلاقات الإنسانية أو التكنولوجيا المبهرة، بل تحدثت أيضًا عن العلم وعن مدى قسوة الجهل، أو مدى ارتياح الجاهل إن صدق القول.. ويتحدث حراجي في رسائله عن انبهاره بأدمغه الأجانب الحُمر – يقصد ذوي الأنوف الحمراء – وعن مدى اختيارهم المكن المناسب لأداء وظيفة حفر السد؛ مما يشعل اللمض في عقل فاطنة والجارات، كما يشعل رغبتها في أن تبدأ هي أيضًا فعل أمرٍ ما، لتكتب لحراجي القط وتخبره برغبتها في زراعة الأرض، ولا أرى أن هذه تفصيلة قد تُفوت هكذا كإكمال القصة، إنما هي نقطة محورية في حياة الإنسان المصري اليوم، وخاصةً الشباب الذين يعانون طوال الوقت من الفراغ العاطفي والرغبة في دخول علاقات عاطفية فقط لملءِ هذا الفراغ، يقول الدكتور أحمد خالد توفيق: «لتجنب الأمراض النفسية قم بشيئين: لا تكن عاطلًا.. لا تكن وحيدًا». لم ينصح حراجي القط فاطنة بالبحث عن شيء يشغلها سوى بعدما قصت له عن مشاعرها المشتعلة ورغبتها في أن تأتي إليه أو يعود هو إليها.
ولم تتوقف جوابات الأبنودي عند الحب والأسرة والعلم والتكنولوجيا فحسب… بل يمكننا أيضًا أن نستلهم منها منهجًا تربويًّا تم التعبير عنه بجملٍ غايةٍ في البساطة، يقول الخال على لسان فاطنة:
«والولد اللي ما تطلعشي مع الوالد..
مهمن كانت زينة يا حراجي..
تبقى زي عيدان الخِلفة التعبانة..
اللي بتتخف عشان العود يطلع
تتطلع ملهاش عوزة..
لا تاكلها ولا تشربها..
زي المية بتاعت الجوزة».
في كم بيت من الشعر الأصيل يُلخص الشاعر القدير عبد الرحمن الأبنودي الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها العلاقة بيت الأب وفتاته، على الأب أن يكون حامي فتاته الأول، وفارس أحلامها الذي لا يسبقه أحد، أن يدللها، وأن يشعرها بأنوثتها ويغدقها بالحب والحنان.. كي تربي فتاة سليمة نفسيًّا عليك أن تربيها من اتجاهين، أولًا أن تجد مصدرًا تستقي منه كيفية التعامل والتصرف مع جسدها وحياتها اليومية كأنثى، فتتعلم منه الرقة، والحنية، وكيفية الحفاظ على جسدها، وهذا هو دور الأم، وأن تجد من يعزز هذه النقاط ويؤكد عليها بالتدليل، والحماية، والأمان، وهو دور الأب، وإذا ألقينا نظرة وسلطنا الضوء على عائلات اليوم تجد أن لا الأب، ولا الأم، يقوم أي منهما بدوره الصحيح، وتخرج لنا كائنات أنثوية ناقصة، تربة خصبة لنمو الأمراض النفسية، وفريسة سهلة للوقوع كضحايا للابتزاز العاطفي.. وكذلك بالنسبة للولد يقول الأبنودي على لسان حراجي: «وهو ده بس أمر يعوز شورة؟» حين اقترحت عليه زوجته أن يذهب عيد للكتاب كي يستطيعَ أن يقرأ لها جوابات أبيه، ويعمم حراجي النظرة فيقول لها: إن من الضروري أن يتعلم الولد كي يشق طريقه في الحياة، وهكذا تتكامل أطراف التربية السليمة.
لم تكن جوابات حراجي القط فقط مادةً شعريةً للسلطنة أو التسلية، بل هي أشبه بمنهجٍ حياتي مكثف يمكننا أن نستقي منه دروسًا مطولة في الحب، والفراق، والغربة، والعلم، والتربية، والوطن، والتاريخ.
وأختم بالدعاء الذي أفضله دائمًا وعلق في ذهني بعدما قرأت الرسالةِ الأولى لأول مرة: «ربنا ما يوري حد غياب».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست