توطئة: نحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على أهم ردود الأفعال الدولية حول الأزمة الليبية، مستعينين بما نجم في الفترة الأخيرة على المستوى المحلي، كدلائل على تنامي نفوذ بعض الجهات وتحالفات تتم في الخفاء.
الأوضاع الداخلية: تفاصيل وإضاءات
رغم أن آخر التطورات تشير إلى أن مساعي رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم بليبيا، برناردينو، قد بدأت تتشكل في نجاح نسبي؛ إلا أن ذلك لا يجب أن يمثل الشجرة التي تخفي الغابة.
تتحدث بعض الأنباء عن تقديم الحكومة المؤقتة (حكومة طبرق) أكثر من 45 طلبًا للتسلح، كل هذا يمثل عقبة أمام ما يعتبره بعضهم روحا دبت في المجتمع الليبي، على إثر حوار جينيف، وخاصة بعد موافقة المؤتمر الوطني العام، على المشاركة فيه بعد الرضوخ لمطلبه الشرعي في نقله إلى ليبيا.
ورغم ما يبديه عديد من الأطراف من تأثير لدول الجوار، سواءً مصر التي يحتفظ برلمان طبرق بعلاقات كبيرة معها، أو تونس التي يتحدث البعض الآخر عن تأثر الليبيين بها, كل هذا لن يحول دون الطريق الطويلة التي يجب على الليبيين أن يسلكوها، لتخطي هذه الفترة الصعبة التي شهدنا فيها أخيرًا إشارات من هذا الطرف وذاك وجب التوقف عندها.
كان من اللافت ترحيب وزير الداخلية في حكومة طبرق، الذي صرح لإحدى القنوات الفرنسية، أنه يستثني من الحوار فقط، التنظيمات المتطرفة، أما ما عداها فقد اعتبره “شريكًا ليبيًا في بناء الوطن وهو مرحب به”؛ بل وصل الأمر إلى أن عبَّر عن استعداده للتنقل إلى مدينة مصراتة (معقل الإسلاميين)، كما يعرفها البعض، ومهد الثورة والعصية على الترويض، كما يصفها الليبيون، كما أكد نفس المسؤول، اتفاق كل الليبيين على وحدة تراب بلدهم، والحفاظ على المسار الذي نجح فيه الليبيون بأقدار.
غير أن نقطة الاختلاف التي تقف عائقًا أمام طرفي الحوار في ليبيا؛ تتمثل في مسألة الشرعية التي منها تنسل كل المشاكل؛ فرغم أن حكومة طبرق، التي صرح وزير الداخلية متحدثًا باسمها؛ لا تعترف بحكومة الإنقاذ الوطني؛ إلا أنها تفضل مثلها مثل المؤتمر الوطني العام، والمؤسسات القانونية الناجمة عنه الحوارَ في ليبيا.
في مفارقة ثانية، نرى الإقرار بتدخل أجنبي من الجهتين، لا يتورع السيد “عمر سالم السنكي” عن الإقرار به بل وتقنينه بقوله “كل دولة أجنبية لها الحق في التدخل لكن في حدود ضيقة”، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول مفهوم السيادة كما يراه أرفع مسؤول أمني في حكومة الثني.
في ظل هذه التناقضات، يلوح جليًا عدم قدرة حكومة الثني على مسك المقاليد لأسباب ذاتية وموضوعية، رغم أن المشكل في ليبيا سياسي أمني؛ إلا أنه يحتاج مع ذلك رجل دولة بامتيازٍ، فهل يكون “عارف النايض” (سفير ليبيا في الإمارات العربية المتحدة، التي اتهمها بعض الثوار بالمشاركة مع مصر في قصف ليبيا تحت ذريعة مكافحة الإرهاب)، المعروف بقربه من تيار معين، أم مصطفى أبو شاقور، الذي لم يحظ بإجماعٍ قبل هذه المرة، هوالرجل الذي تحتاجه ليبيا؟
يبقى السؤال الداخلي ملحًا، لكن الأشد منه أهمية وإلحاحًا، هو العامل الخارجي الذي يكاد يجمع المتابعون على تأثيره المباشر على الفرقاء في ليبيا.
وهو ما يحيلنا إلى العنصر الثاني من ورقتنا، وهو الوضع الإقليمي وردود الأفعال الدولية حول ما يجري في ليبيا.
الاقتصاد عصب السياسية:
لا غرو أن المصالح الاقتصادية الموجودة في ليبيا، والتي تقيم لها البلدان الغربية ألف حسابٍ، هي العامل الأول والحاسم في تدخلها، ومحاولتها التأثير على الساحة سلبًا أو إيجابًا.
ولا شك أيضًا أن مسألة الموازنة الاقتصادية الليبية، في صدراة الاهتمام، خاصةً مع تدني أسعار النفط الذي تعتمد عليه ليبيا اعتمادًا شبه كلي، والذي لا يُعِين السعرُ المتدني الحالي له – إلى جانب أزمة المواني النفطية التي لم يقع حلها إلا في وقت قريب – على التفاؤل. فالسعر المرجعي الذي تعتمده ليبيا لبرميل البترول يبلغ 184 في حين يبلغ سعر البرميل حاليا 60 دولارًا.
أضف إلى ذلك ما أثير حول البنك المركزي من لغط، دفع محافظه لعقد اجتماع مع سفراء دول غربية، نهاية الشهر المنصرم بتونس؛ ليحاول مواصلة الجهود الحثيثة التي يقوم بها، في التواصل مع الهيئات والمؤسسات الدولية، لتوضيح وجهة نظر المصرف فيما يخص القضايا الهامة، التي تواجه الوضع المالي والاقتصادي الليبي، خاصةً أن قوى غربية أعربت في اجتماعات دبلوماسية رفيعة، عن خشيتها من فقدان البنك لحياديته, خاصة بعد وضوح العجز في الميزانية والذي بلغ 25.1 مليار دينار ليبي؛ أي 18.6 مليار دولار، سيما أن الاقتصاد الليبي قد انكمش في العام الماضي بنسبة 19.8%، وزاد معدل التضخم فيه، في 2014 بنسبةٍ تقارب الخمسة بالمائة، وقد يصل هذه السنة إلى أكثر من 6 بالمائة.
رغم ذلك، يتفق الجميع على أهمية الدور الذي يقوم به المصرف المركزي، وعلى وجوب بقائه على حياديته واستقلاليته، وضرورة بقائه متماسكًا؛ لإيصال الخدمات لكل الليبيين، وتخفيف المعاناة اليومية عنهم.
رغم هذا الاتفاق، إلا أن مصالح الدول – وقد تضررت جزئيا – أصبحت في مرمى السهام، وهو ما تجلى بكل وضوحٍ في البيان الذي صدر عن دول ست، هي الولايات المتحدة، وخمس دول حليفة، حذرت فيه (في السابع من فبراير 2015)؛ من أن ليبيا قد تواجه الإفلاس في حال استمر تراجع أسعار النفط.
والتي عبرت فيه عن القلق إزاء تدهور الوضع الأمني في ليبيا، فقد حذرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، من أن ليبيا على حافة انهيار اقتصادي بسبب تراجع إنتاجها وهبوط أسعار النفط.
وجاء في نص البيان: “لا نزال قلقين جدًا إزاء العواقب الاقتصادية للأزمة السياسية والأمنية، على ازدهار ليبيا في المستقبل”. وأضاف البيان أنه: “في ضوء تراجع أسعار النفط وضعف الإنتاج، تواجه ليبيا عجزًا في الموازنة، قد يستهلك كل مواردها المالية إذا لم يستقر الوضع”. والبيان نشر بعد هجوم وقع في 3 فبراير في حقلٍ نفطي تملكه شركة توتال الفرنسية وقتل فيه 13 عاملًا.
وهنا يجدر التذكير بما قامت به فرنسا في جنوب ليبيا، وما نجم عنه من ردود أفعال، وصفها بعضهم بأنها نتيجة طبيعية لحشر فرنسا أنفها في الجنوب الليبي وشؤونه، وتضخيم الصحافة الفرنسية للواقع الأمني في الجنوب؛ من جهة تخويف المتابعين للأوضاع في ليبيا، وهو ما تجلى من الفكرة المغلوطة التي تكذبها الوقائع الأمنية الواردة لنا من سَبْهَا وما حولها، والتي تؤكد استتباب الأمن وسيطرة الأجهزة الرسمية في دولة ليبيا على الأوضاع.
وقال البيان أيضا: “نحن قلقون إزاء التواجد المتزايد لمنظمات إرهابية في ليبيا، وإزاء الهجمات على فندق كورينثيا الأسبوع الماضي، وحقل المبروك النفطي في وقت سابق هذا الأسبوع”.
وهو استنتاج خطير، خاصةً أن حقل المبروك يقع على بعد 170 كلم جنوب سرت (500 كلم شرق طرابلس)، وهو متوقف على غرار العديد من المنشآت النفطية الليبية.
يذكر أن الإنتاج النفطي الليبي تأثر بشكلٍ كبيرٍ بعد حصار “الجضران”، وقوات حرس المواني النفطية للمواني لمدة تقارب السنة، فبعدما كانت ليبيا تنتج أكثر من مليون ونصف مليون برميل يوميًا قبل ثورة 17 فبراير، تدهور الإنتاج نهاية العام الماضي إلى نحو350 ألف برميل.
في نهاية الورقة يمكن أن نستخلص الآتي:
1- الوضع الداخلي الليبي شديد الارتباط بالخارج.
2- الجنوب الليبي هو محور استقرار ليبيا.
3- الجانب الاقتصادي هو أساس التدخلات التي تشهدها ليبيا وحماية المصالح.
كل هذه المحاور ستكون محاور ورقات قادمة، سيعدها المركز لمزيدٍ من تسليط الضوء على هذه المواضيع الهامة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست