مما لاشك فيه، أن المتابع للعلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، سيرى أنها دائمًا ما تتسم بالشد والجذب، تارة تكون أقرب إلى التعاون والتكامل، بينما في أحيان أخرى تكون أقرب إلى الصراع والتوتر، هذا بالطبع يعد أمرًا عاديًّا في دراسة وتحليل العلاقات الدولية؛ إذ من مميزاتها أنها لا تستقر على حال واحدة دائمًا وأبدًا، فحتى داخل الاتحاد الأوروبي تكون الصراعات والتجاذبات، بل تصل في بعض الأحيان إلى توترات بين الدول تهدد تماسك الاتحاد، ذلك لأن سياسات الدول تختلف وبالتالي تختلف معها التصورات تجاه قضايا معينة، وهذا من طبيعة الحال لا يتعلق فقط بالعلاقات داخل الاتحاد الأوروبي، بل ينطبق ذلك على جميع العلاقات الدولية دون تمييز، لكن بما أن طبيعة العلاقات الدولية تتسم بالتغيير وغير مستقرة على حال واحدة، فلماذا كل هذا التضخيم لأزمة عابرة بين بلدين جارين يتشاركان مجموعة من التحديات والرهانات؟ والجواب على ذلك سوف يكون من خلال تحليل أعمق لتطور العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا والنظر إليها من منظور تحليلي علمي يشمل تصورات المدارس الفكرية لتحليل العلاقات الدولية، ذلك من خلال العناصر التالية:

أولًا: تطور السياسة الخارجية المغربية، من المعلوم أن السياسة الخارجية المغربية طغت عليها وبشكل كبير المبادئ المثالية، حيث تميل أكثر إلى التعاون وتسوية الخلافات بشكل هادئ وودي، حتى ولو بتقديم التنازلات، وبالتالي منطق إعمال الحكمة والرزانة في تجاوز العقبات والتحديات، بدل الصراع والتصعيد اللذين يقودان فقط إلى استنزاف طاقة الدولة وإمكاناتها، وما اعتبار مجال السياسة الخارجية مجالًا سياديًّا وحصريًّا للملك إلا سير في النهج نفسه وترسيخه، بحيث إن الحكمة في ذلك هو إبعاد هذا المجال الحساس عن التقلبات والصراعات الحزبية والسياسية الداخلية، وكذا عن مزاجية السياسيين وخطاباتهم التي قد تكون في بعض الأحيان متهورة وغير مسؤولة، وبالتالي تكون سببًا في إحداث أزمات دبلوماسية مجانية لا طائل منها. لكن من جهة أخرى، فاعتماد السياسة الخارجية المغربية على الأفكار المثالية لم يكن اعتباطيًّا أو هكذا فقط، بل على العكس تمامًا، فإمكانات المغرب الضعيفة ومكانته المتواضعة داخل المجتمع الدولي، وكذا التحديات الإقليمية الدائرة به، فرضت عليه نهج الأسلوب المثالي وإعمال سياسة المناورة وتجاوز الأزمات بحكمة ورزانة، بعيدًا عن التصعيد والتهور الذي لن يزيد المغرب إلا ضعفًا، خصوصًا وأن المغرب لديه قضية حساسة جدًّا يجب عليه ألا يخسرها بسبب فعل وسياسة متهورة، لذلك كان من الصواب نهج السياسة المثالية السلمية والهادئة التي كانت ملائمة لمكانة المغرب وقوته المتواضعة، لكن ومن طبيعة الحال، فقوة الدولة ومكانتها ليست شيئًا ثابتًا ومستقرًّا، بل تتغير مع تغير قوة الدولة سواء بالزيادة أو التراجع، لذلك فالمغرب في السنوات الأخيرة خطا خطوات مهمة نحو التقدم والنمو، حيث إن مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم، كيف لا وقد استطاع المغرب بفضل سياساته الناجعة أن يجد مكانًا له داخل القارة الأفريقية ويفرض نفسه عملة صعبة، فينافس بذلك الدول الأوروبية داخل القارة، وكذا زعزعة تربع جنوب أفريقيا على جل مؤشرات التنمية والتقدم بأفريقيا، كما أن السياسات الإستراتيجية التي رسمها المغرب لنفسه، سواء على المستوى الأمني والاستخباراتي، التي كانت صدًّا منيعًا لجميع محاولات زعزعة استقرار المغرب، بل تعدى ذلك لتقديم المساعدة لشركائه الإستراتيجيين في هذا المجال، زد على ذلك السياسة الاقتصادية الاستباقية التي تتجلى في الانفتاح على الطاقات المتجددة، هذه الأخيرة التي سيكون لها مستقبل بارز وستكون سببًا في تغييرات كثيرة في موازين القوة الدولية، وبالتالي فكل هذه المتغيرات التي يشهدها المغرب ساهمت بشكل واضح في تعزيز مكانته الإقليمية والدولية، وكذلك في زيادة قوته وإمكاناته، الشيء الذي ينعكس تلقائيًّا على السياسة الخارجية الدولية.

ثانيًا: التخوف الإسباني من الصعود المغربي: إن إسبانيا بوصفها الجارة الشمالية للمغرب وتتشارك معه مجموعة من التحديات والرهانات، وكذلك بصفتها لا تزال محتلة لمجموعة من الأراضي المغربية (سبتة، مليلية، جزر الكناري)، هذا العنصر الأخير بالذات يجعل من إسبانيا متخوفة من الصعود المغربي كيفا كان، فكل التحركات المغربية نحو التقدم والازدهار وتنمية قوته العسكرية والاقتصادية، تنظر إليها إسبانيا بتشاؤم وبعدم الرضى، لأنه ببساطة ستنعكس عليها عاجلًا أم آجلًا، فالقراءة الإسبانية للمشاريع الاستثمارية الضخمة التي يسير عليها المغرب، خصوصًا بمناطق الشمال المغربي والصحراء المغربية، هي أنها موجهة بالأساس لإحكام الخناق على المناطق المغربية التي تحتلها إسبانيا، ميناء طنجة المتوسط، والميناء المرتقب بالناظور، ثم الميناء المرتقب كذلك بمدينة الداخلة، كلها موانئ باستثمارات ضخمة ستجعل منها الأهم في منطقة المتوسط، كما أن الذهاب نحو إحداث المناطق الحرة بالشمال ما هو إلا تأكيد للمخاوف الإسبانية التي ترى في كل تلك التحركات المغربية استهدافًا لها، بل أكثر من ذلك، ما زاد من ارتباك الإسبان هي السياسة التعاونية التي كرسها المغرب مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي من خلال الربط المباشر بين البلدين عن طريق جبل طارق متجاوزين بذلك إسبانيا، التي تحاول أن تكون القوة الأهم في المتوسط، لكن هذه التخوفات الإسبانية لا تمنع بتاتًا المغرب من مواصلة سياساته التنموية والتقدمية، وبناء علاقاته الدولية، لأنه في الأخير تبقى العلاقات الدولية مبنية على أساس المصالح، فإسبانيا تحاول حماية مصالحها لا غير، وكذلك المغرب عليه أن يسير وفقًا لمصالحه وليس وفقًا لرغبات بعض الدول.

ثالثًا: ملف قضية الصحراء المغربية، من الأكيد أن قضية الصحراء المغربية هي قضية كل المغاربة، وتعد قضية مقدسة لا يقبل المساس بها أبدًا ولا المساومة بها، وحساسية هذا الملف لدى المغاربة يرى فيها البعض ورقة ضغط على المغرب؛ إذ إن معظم الدول المعادية للمغرب والتي تتعارض أفكارها مع أفكار المغرب تلجأ إلى هذه الورقة، لمحاولة الاستفزاز وتحقيق المبتغى من خلال استخدامها، من طبيعة الحال، كانت هذه الطريقة فعالة لدى البعض وتؤتي أكلها مع مغرب الأمس، لكن مع مغرب اليوم، ومع كل المتغيرات التي عرفها المغرب والسياسات التي رسمها نحو بناء قوته ومكانته الدولية، أصبح استخدام تلك الورقة غير مجد، بل يواجه مستخدميها بلغة حادة وواضحة، فاعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه، لم يكن عشوائيًّا فقط، بل تعلم الولايات المتحدة جيدًا أن المغرب شريك إستراتيجي لها ويدخل في نطاق مصالحها، مما يعني أنه لا غنى عنه في المنطقة، وبالتالي استغلال ملف الصحراء لاستنزاف المغرب لم يعد له أي معنى، فالعلاقات الدولية تتغير والنظام الدولي يتغير والمعطيات الدولية تتغير، لكن بالمقابل، لا تزال إسبانيا على غرار بعض الدول المعادية لمصالح المغرب ترجو الشيء الكثير في ورقة الصحراء، فإسبانيا تحاول من خلالها الضغط على المغرب أو على الأقل وقف طموحاته المستقبلية التي تراها إسبانيا في تحرير الأراضي المغربية التي تحتلها؛ إذ إن تحقيق الانفصال سيكون في صالح إسبانيا بشكل كبير، كيف لا وهي التي أزعجها ترسيم المغرب لحدوده البحرية، بحيث إنه مع الانفصال سيكون لإسبانيا الحرية المطلقة في محيط جزر الكناري وتستولي على ما تشاء وكيفما تشاء، لذلك هي تستخدم أسلوب المراوغة والنفاق في التعامل مع القضية، حيث تعلن عبر قنواتها الرسمية أنها مع الجهود الأممية لحل النزاع، وبالمقابل تدعم الفصائل الانفصالية وتوفر لهم جميع الوسائل والآليات لإيصال رسائلهم كما توفر لهم البيئة الفعالة لذلك، وكان آخر ذلك استقبالها لزعيم التنظيم الانفصالي على أراضيها، لكن الطامة الكبرى والتي فضحت إسبانيا وسياستها ذات الوجهين، هي استقبالها بأوراق ووثائق مزورة، ودون إخطار للسلطات المغربية، مما يؤكد التواطؤ الإسباني في الملف ويعري عنها أقنعتها التي تحاول أن تظهر بمظهر الدولة المتعاونة والقانونية من خلالها.

وفي الأخير، فإن المغرب يدرك جيدًا إمكاناته، ويعلم يقينًا أن الأمس ليس هو اليوم، لذلك فالتغير الواضح في لغة السياسة الخارجية المغربية يرجع إلى عدة أمور، سبق وأشرنا إليها، كما أن قضايا الهجرة وتبعات هذا التحدي، ما هي إلا تمويه مقابل من طرف المغرب لإسبانيا، فكما تتهرب إسبانيا وتختبئ وراء خطابات وشعارات رنانة، لتمويه المغرب على حساب قضيته الأولى، فكذلك المغرب ينهج الأسلوب نفسه في تمويه الإسبان، وإيصال رسالة مشفرة، مفادها أنه لا مجال لسياسة الوجهين، وعلى إسبانيا أن تعلم أن المغرب يفرض أمره الواقع، وعليها أن تتعامل معه وفق هذا المنظور، فالصحراء لم تعد تحتلها إسبانيا ولن يتحقق لها الانفصال، أما قضايا الهجرة فأوروبا بأكملها تعلم علم اليقين أنه تحد لا يؤرق بال المغرب بتاتًا، ويستطيع المغرب بفضل خبراته في هذا المجال أن يقف بحزم للتصدي لتلك الظاهرة، كما يفعل دائمًا وبشهادة الجميع، لكن عندما تتغير المواقف تتغير المعطيات وبالتالي يتغير معها الأسلوب.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد