من تتبّع خيري بشارة في بدايات مشواره في الإخراج السينمائي سيترسّخ في ذهنه خط ونمط سينمائي معين وهو السينما الواقعية التي تميز بها مثل غيره من مخرجي جيل الثمانينيات، لكن دعونا نطرح تساؤلًا بسيطًا «كيف كان حال السينما المصرية قبل هذا الجيل»؟

الإجابة ببساطة أن أغلبية الأفلام كانت رصدًا لصراعات أو حيوات أو علاقات ثنائية بين البطل والبطلة، الحبيب والحبيبة، الزوج والزوجة، مجسدات الخير والشر… إلخ، ثم تغير الأمر تمامًا بعد فترة السبعينيات، بدأت كاميرات السينما تُسلّط على الشارع حيث بدأ التفات مخرجي وكُتاب هذا الجيل يتجه إلى المجتمع، إلى شخصيات حقيقية وحالات متشابهة في الارتباك والتشتت واليأس والتهميش، كلها سمات عامة سادت المجتمع في تلك المرحلة التي تبددت ملامحها بين ليلة وضحاها بسبب الظروف السياسية وأزمة الحرب وما بعدها واضطراب هذا الجيل بأكمله. بمرور الوقت وبالانخراط القاسي مع ظروف المجتمع المُحبَط ظهرت الواقعية السينمائية المتسمة بالحزن والكآبة وعلامات الفقر، أصبح الأبطال في الأفلام يُصارعون أشخاصًا هم تجسيد حيّ للسلطة ومجتمع الفهلوية من التُجار ورجال الأعمال أبناء ثقافة الانفتاح بشكل عام، والفساد على جميع الأصعدة، والفقر بكل وجوهه، والأحلام التي لا تكف عن مراودة الأبطال، الأحلام صعبة المنال. سينما خيري بشارة رصدت هذا الواقع وتماهت معه – مثل باقي مخرجي جيله – بدءًا بـ«الأقدار الدايمة» (1982)، مرورًا بـ«العوامة 70»، و«الطوق والإسورة»، و«يوم مر يوم حلو» ثم قرر بشارة أن يترك واقعيته ويكسر الإيقاع ويُطارد الأحلام فأخرج «كابوريا» (1990) بطولة أحمد زكي ورغدة وحسين الإمام والذي حقق في أول أسبوع عرض إيرادات عالية ونجاحًا غير متوقع، لكن بالنظر إلى محتوى الفيلم نجد أن الفئة التي يُحاكيها بشارة في هذا الفيلم هي فئة جديدة بدأت تسود المجتمع.

يتكرر وجود أبطال مهمشين على مدار سلسلة أفلام بشارة التالية، لكن «كابوريا» قدم لنا نموذجًا مختلفًا تمامًا في قالب ساخر لمجموعة من الشباب قادهم حظهم إلى نزهة نيلية في ساعات الفجر الأولى لتُقابلهم – بدون تخطيط لهذا اللقاء – بطلة الفيلم الثرية بعد أن أصابها الملل من حفلها الصاخب ومن زوجها أيضًا، لتُقرر أن تُدخل هؤلاء الشباب الأربعة إلى عالمها – من أجل خوض لعبة جديدة لكسر هذا الملل – في رحلة تستمر إلى نهاية الفيلم. زوجان ثريان اشتروا هؤلاء الشباب الذين يسعون إلى هذا الكسب السريع، الملابس الأنيقة والمنزل الفخم والرقص واللهو في الحفلات، حياة جديدة تمامًا في مقابل إشباع رغبات الزوجين في التنافس والرهان الدائم عليهم. يتكرر الحال في فيلم «حرب الفراولة» (1994) مع سامي العدل/ ثابت وجدي الرجل الثري الذي يملك كل شيء عدا سعادته، يقابل حمامة/ محمود حميدة مصادفة –أيضًا – في الشارع ليعقد معه عقدًا رسميًّا يلتزم فيه الطرف الأخير وزوجته بإسعاد الطرف الأول في مقابل مبلغ كبير من المال.

تستمر سلسلة الرهانات والتعاقدات المشروطة مثلما حدث في «أمريكا شيكا بيكا» (1993) حيث تعاقد ثمانية أشخاص هم أبطال الفيلم مع رجل أعمال ليشتري لهم حلم السفر إلى أمريكا، الحلم الأمريكي والملاذ الأخير لمجموعة من الأبطال المهمشين، لا يميزهم أي شيء للعيش والكسب في بلد كبير مثل أمريكا، لا شيء أكبر من هذا الحلم الأمريكي الذي يسيطر عليهم ليبيعوا من أجله كل ما يملكون لنجد في نهاية الأمر أن الحلم مزور والتعاقد باطل فقد هرب صاحب الوعد وتركهم تائهين في منتصف الطريق برومانيا، لا يملكون أموالًا ليصلوا إلى أرض الأحلام ولا حتى القليل ليعودوا إلى مصر.

تستمر الأحلام والوعود، لكن هذه المرة بفانتازيا مؤلمة. قدّم بشارة «قشر البندق» (1995) ليأخذنا في رحلة جديدة مع صاحب فندق ثري غريب الأطوار قرر أن يعقد مسابقة للأكل شروطها أن يصمد المتسابقون أمام كل أطباق الأكل التي ستُقدم لهم، فيتقدم للمسابقة أعداد هائلة من البسطاء والفقراء وأصحاب البطون الفارغة ليقعوا مرة أخرى في شباك الأثرياء غريبي الأطوار، وينتهي الفيلم نهاية غير متوقعة في مشهد قاسٍ ليُجبرنا على التوقف عن الضحك حيث يموت أحد المتسابقين «حميد الشاعري» بعد أن أنهكه النهم ورأسه مدفوس في طبق الأكل.

عندما يراهن الشخص على شيء يكون واثقًا منه ثقة شديدة، ويكون هذا الشيء المُراهن عليه ذا قيمة حقيقية تستحق الرهان والتضحية بالكلمة والمال، لكن بالنظر مرة أُخرى إلى «كابوريا» إلى حسن هدهد/ أحمد زكي ورفاقه نجد أنه لا شيء معين يُميزهم سوى أنهم لاعبو ملاكمة عاديون فقط لم يأخذوا فرصتهم للشهرة والاهتمام، لكنهم يصلحون تمامًا لأن يكونوا لعبة في حلبة منافسة وهمية لا قيمة حقيقية وراءها، يكسبون من الجولة الأولى من أجل الفوز برهانات الآخرين، رهانات لم يشتركوا فيها ولم يهتموا أصلًا بسبب اختيارهم هم تحديدًا لهذه اللعبة المهينة. كذلك الحال تظهر لنا بساطة أبطال «أمريكا شيكا بيكا» والمتسابقين في «قشر البندق» والمختنقين من زحمة المرور في «إشارة مرور» وسيف ورفاقه في «آيس كريم في جليم». كلهم شخصيات بسيطة وضئيلة وسط عالم كبير.

بشارة يخلق دائمًا مساحة ليتنفس منها عن أمر ما بداخله، وهذا حقه بالتأكيد، ولا أدري لماذا افترضت أن هذا المشهد الذي سأحكيه كان فكرة بشارة نفسه وليس فكرة عصام الشماع مؤلف فيلم «كابوريا». بعد أن فاز حسن هدهد في أول مبارة له راهنت عليه حورية/ رغدة، يظهر لنا هدهد في مشهد مع أحد المدعوين للحفل وهو يبادره الحديث في حوار مقتضب:

– أنت مش فاكرني!

– لأ.

– أيام سينما محمد علي سيادتك يعني أنا كنت على طول في السيما.

– آه آه، ده كان زمان.

– آه منا عارف، ليه قلبتها مصنع جزم؟

– يا راجل الجزم أحسن من السيما!

– بس أنا بحب السيما بقى، راجل غبي.

يلعب هدهد مباراة ملاكمة في المشاهد الأولى من الفيلم في الشارع وينتصر، وهذا ترك انطباعًا لدى المشاهد أن هدهد ليس ملاكمًا قويًا تضمن كسبه لرهانات رغدة عليه، لكن المُشاهد تضامن معه وشجعه، ليس لمهارته ولكن لأنه يعرف هذه الشخصية التي تُشبهه أو تُشبه أخاه أو صديقه أو أبناء منطقته الذين يسعون إلى حلم أو بالأحرى فرصة ذهبية تقودهم إلى أحلامهم، لأن فوز حسن هدهد يعني بشكل أو بآخر وجود أمل في وصول هذا الجيل إلى أحلامه على أرض الحلبة وعلى أرض الواقع حتى لو كان بضربة «بوكس».

يتكرر أمامنا الحلم، لخصته درية في حديثها مع حبيبها سيف في «آيس كريم في جليم» (1992) هي عاملة في «بوتيك» يبيع أغلى ماركات البرفان وولاعات الذهب، ناقمة على حياتها، وحبيبها يسكن في جراج بالمعادي ويتخيل نفسه كأنه يعيش في نيويورك ويملك أحلامًا أكبر من حدوده، الحلم الأمريكي مجددًا يتجسد هذه المرة في مظهر سيف وملابسه ونوع الأفلام التي يُشاهدها وموسيقى الروك الأمريكي التي لا تفارق مشغل موسيقاه، كلها أحلام يعيشها سيف ولا تُشبهه فقرر أن يخلق مجتمعًا مثاليًا ويختبئ بداخله، وفي المقابل مثلًا أم درية التي تعمل عاملة نظافة في الحمام لا تجد حرجًا من وظيفتها لأنها لا تتعارض مع أحلامها التي لا تتجاوز مساحة الحمام. تترك درية خطيبها لأنها تبحث عن حلم الثراء فتتزوج رجلًا غنيًا ويبقى سيف الذي يبحث عن حلمه في الغناء وعن آية التي أحبها، ربما لأنها تُشبه أحلامه البسيطة، لكنها رغم ذلك تصدمه برفضها له بسبب ارتباكها حيال مشاعرها.

كل أبطال بشارة يملكون أحلامًا ويدفعون ثمن هذه الأحلام غاليًا. لكن يتغلب أبطاله على صعوبات الحياة بالسخرية والغناء، الكثير من الأغاني التي تمرر قسوة الأحداث، كما يمررها أيضًا بالأداء الفانتازي الخفيف.

نجد في فيلم «إشارة مرور» نماذج مختلفة من الناس مجتمعين في إشارة مرور مغلقة بأحد شوارع وسط البلد والسبب غير معلوم، ليخدم هذا الإطار الفانتازي للفيلم، لكن هذا الإطار كان خامة جيّدة لعرض كل النماذج التي تساعد بشارة في عرض شخصياته المهمشة والبسيطة والثرية والمجنونة في قالب فانتازي بحت.

يأتي مشهد قاسٍ في إشارة مرور لـ«القليوبي» الذي فاض به الكيل فأشعل في نفسه النار في منتصف الطريق وبعد أن أنقذه العالقون مثله في الإشارة عاد مستكينًا إلى زوجته في السيارة فانتهى المشهد بأن استعادوا أيام صباهما ثم غنّوا سويًا «خايف أقول اللي ف قلبي تتقل وتعند ويايا».

نعود للأحلام، يواجه سيف صديقه الشاعر الثوري في «آيس كريم في جليم» بحوار لخص فيه أحلامه وأحلام جيله البسيطة:

«نفسي أغني عن نفسي عن حاجات تخصني، يمكن تكون بسيطة يمكن تكون تافهة، لكن حاسسها. عايز أصدق نفسي عايز أبقى أنا. أنا بكل اللي جوايا. مش عايز أبقى بطل، عايز أبقى سيف الواد بتاع الجراج وأصحابه اللي بيشتغلوا ف شارع تسعة. الواد بتاع الفيديو اللي بيحب الجينز وبيكره البدلة. اللي بياكل آيس كريم ف عز البرد. اللي حبّك بشكلك المنيّل ده. فاهمني ولا لأ».

هكذا يمر كل شيء في سينما بشارة بالسخرية على واقع غير عادل بالسخرية والبكاء والغُنا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

خيري بشارة
عرض التعليقات
تحميل المزيد