(1)
ينتظره أمام الطائرة، وبمجرد نزوله يقترب منه يصافحه ويقبله في ابتسامة هادئة، بينما يقول مذيع التلفزيون المصري: “إن الأمة العربية في لحظة فارقة من تاريخها، لحظة تقتضي من الجميع التوحد، فالأمم الكبيرة عندما تكون على مفترق طرق، تفكر دائمًا في المشترك، وتنسى الخلافات”.
أشفق على المواطن المصري البسيط وهو يشاهد هذا المشهد بين الرئيس السيسي وأمير قطر الشيخ تميم، بعد أن تم شحنه إعلاميًّا على مدار نحو العام والنصف عام، عن المؤامرات التي تدبرها قطر لمصر، أراه يسرع إلى الإعلاميين الذين أبدعوا في كل فنون التحريض، ليشاهد تعليقهم على الحدث، فيجدهم يتناولونه بالتبرير بنفس المقدرة السابقة على التحريض.
أشفق على المواطن من صدمة مشاهدة هذا الحضن، وصدمة مباغتة تغيير المشهد السياسي، ولكني أخشى عليه أكثر من صدمات أخرى.
أخشى عليه، لأنه لن يكون التغيير الوحيد في المشهد، وسيتبعه أحضان أخرى.
(2)
“إذا كانت «عاصفة الحزم» موجهة عسكريًّا للحوثيين، فإنها سياسيًّا موجهة لإيران. أي وجود إيراني في الجزيرة العربية، تحت أي غطاء، مرفوض تمامًا بلغة المنطق والتاريخ والسياسة، كما بلغة القوة”.
هذه كانت كلمات الكاتب والأكاديمي السعودي خالد الدخيل في مقالته في صحيفة “الحياة” اللندنية التي حملت عنوان “إيران إسلامية… ولكنها عدو”، وهي تأكد على لسان واحد من أكثر الفاعلين في الحياة السياسية في السعودية بشكل غير رسمي، وجهة النظر السعودية إزاء إيران.
ترى السعودية الآن أن خطر التمدد الإيراني يحاصرها من كل جهة، وهو ما عبر عنه مجلس الوزراء السعودي بقوله: “إن تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة يتطلب الالتزام بمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية واحترام سيادتها”، ويتمثل أمامها في كل لحظة شبح قول علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، إن “إيران إمبراطورية عاصمتها بغداد”، ويرعبها تراجع نفوذها الإقليمي، وعودة المارد الإيراني بعد أن كبلته طويلًا قيود عقوبات الولايات المتحدة وحلفائها على إيران، وذلك بعد الاتفاق الإطاري بشأن الملف النووي الإيراني.
تبحث السعودية طويلًا عن حلفاء لها، فلم تجد بعد الشك في نوايا أمريكا، إلا القوى السنية الإقليمية طوق نجاة لها، ولكن الأوضاع، في بادئ الأمر، لم تكن في صالحها بالكامل.
تعاني مصر من وضع اقتصادي متدهور، فدعمتها السعودية والدول الخليجية التي يطولها الخطر الإيراني، خاصة الإمارات التي تقع ثلاث جزر منها تحت الاحتلال الإيراني، واقترح الملك عبد الله إقامة المؤتمر الاقتصادي، الذي انهالت فيه المنح والودائع الخليجية على مصر، وصلت إلى 12.5 مليار دولار.
ولكن المنح وحدها لا تكفي، والأموال نفسها لا تنفع، في ظل خلافات سياسية عاصفة بين الدول التي تستهدف السعودية أن تقف معها في خندق واحد في معركتها الإقليمية ضد إيران.
(3)
“في السياسة لا يوجد صديق دائم ولا عدو دائم، ولكن يوجد مصالح دائمة”.
هذه قاعدة تشيرشل التي لعب ويلعب وسيلعب عليها كل الأطراف، من أجل مصلحة واحدة، تختلف في تفاصيلها، وتتفق في إطارها العام الذي لن يخاصم حتمًا المصلحة السعودية، والتي هي بدورها جزء من مصالح دول عظمى فاعلة في الصراع الحالي.
اتخذت مصر من قطر عدوًا، قال فيها إعلاميوها ما قاله مالك عن الخمر، قال مندوب مصر في الجامعة العربية عنها إنها تدعم الإرهاب، وقطر سخرت من “الجزيرة” قاعدة للهجوم على القيادات المصرية بعد عزل مرسي، عارضت سياسات مصر، خاصة ضربتها الجوية في ليبيا، وسحبت سفيرها في فبراير الماضي.
قاد الملك عبد الله مفاوضات المصالحة التي كانت ملزمة للطرفين، والتي انتهت إلى قبول مصر وقطر، وردت مصر في بيان لها : “إن مصر استقبلت بترحيب كبير البيان الصادر من الديوان الملكي السعودي، والذي أعلن فيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عن التوصل إلى اتفاق الرياض التكميلي الذي يهدف إلى وضع إطار شامل لوحدة الصف والتوافق بين الأشقاء العرب لمواجهة التحديات التي تهدد أمتنا العربية والإسلامية”.
اعتقد البعض أن المصالحة انتهت برحيل الملك عبد الله، ولكنهم لم يعلموا إن المصلحة من وراء المصالحة لم ترحل، وهي مستمرة، فيجب أن تستمر المصالحة.
العدو الذي كاد أن يكون دائمًا، انقلب إلى صديق، غير من سياسته الإعلامية، أعاد سفيره، طرد قيادات الإخوان، فاستقبل بالأحضان، وسط تعليق المذيع: “لحظة تقتضي من الجميع التوحد”.
ولكن هل توحد بهذا الجميع (الذين تستهدفهم السعودية) بالفعل؟
(4)
“ناقش الملك سلمان والرئيس السيسي مسألة العلاقات المصرية مع قطر وتركيا، حيث أخبر السيسي سلمان أن سياسات تركيا وقطر تستمر في نشر العنف والإرهاب في المنطقة”.
نقلت وكالة الأنباء الأمريكية “الأسوشيتد برس” الأمريكية هذه الكلمات من على لسان مسئولين مصريين مطلعين لم تكشف هويتهم.
السيسي يرى أن سياسات تركيا وقطر “تستمر في نشر العنف والإرهاب في المنطقة”، ولكنه تصالح مع ذلك مع قطر، فما الذي يمنع من التصالح مع تركيا؟
تركيا قطعت علاقتها السياسية مع مصر السيسي بعد 30 يونيو، ووصلت المناوشات بين الطرفين ذروتها في نوفمبر 2013 بطرد كل دولة سفير الدولة الأخرى، ولكن، في الوقت ذاته، استمرت اتفاقية “الرورو” التجارية بين مصر وتركيا، حتى أبريل الجاري.
عندما أبلغت مصر تركيا بعدم عزمها تجديد الاتفاقية، توجهت تركيا إلى إيران، ووقعت 8 اتفاقات اقتصادية مع إيران.
السعودية تستشعر الخطر من الاتفاقات التركية مع عدوها اللدود، استشعارها للخطر سيجعلها تواصل الضغط. مصر الدولة السنية العربية الأكبر من حيث عدد السكان وجيشها الأول عربيًّا، وتركيا الدولة الإسلامية الأكبر سياسيًّا، والأقوى عسكريًّا، المكاسب التي ستحصدها السعودية من ضمهما للحلف معًا، يستحق منها أن تستمر في جهودها التي بدأتها أثناء لقاء القمة بين الملك سلمان والرئيس أردوغان، لتحقيق تقارب وجهات النظر بين البلدين، خاصة فيما يخص العلاقات المصرية التركية.
ولكن..
(5)
أردوغان توجهاته “إخوانية”، كيف سيسمح بإعادة العلاقة مع مصر؟
قال أردوغان، مؤخرًا، إنه “يجب على مصر أن تفرج عن الرئيس المعزول محمد مرسي، وتلغي أحكام الإعدام الصادرة على مؤيديه، وذلك قبل النظر في تحسين العلاقات مع القاهرة”.
أردوغان وضع إطارًا للمصالحة، أهم ما فيه أنه تراجع عن إصراره بعودة مرسي رئيسًا، صحيح أن الإعلام المصري هاجمه، ولكن القيادة السعودية مستريحة لهذه الشروط، التي تتلاقى مع مصالحها، ومصلحة السعودية في المصالحة التي أفصح عنها بصراحة الكاتب السعودي القريب من النظام السعودي جمال خاشقجي برأيه أنه “حان وقت توقف الصراع الدائر في مصر، وإجراء مصالحة وطنية، للتفرغ لبناء الوطن”.
أدركت السعودية من تجربة اليمن، واعتمادها على حزب الإصلاح اليمني التابع لفرع جماعة الإخوان في اليمن، ومن قبلها تجربة المعارضة الإخوانية في سوريا، أن الجماعات الإخوانية هي القوى السنية الوحيدة التي يمكنها أن تدعمها للوقوف أمام الجماعات الشيعية المدعومة من إيران.
تعلم السعودية مدى الخطورة التي تشكلها عليها العلاقات التي تجمع بين حماس وإيران وحزب الله، في تبادل المعلومات والسلاح، والتي بدت، مؤخرًا، وفقًا لما نقلته بعض التقارير، في دعم إيران لحماس من أجل إعادة إعمار غزة. أمام السعودية طريقان لضمان السيطرة على حماس “الإخوانية”، وهما: قطر التي انتقل إليها رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل بعد إقامته في دمشق الحليفة لإيران، والسلطات المصرية التي تشدد الخناق على حماس، وهو الخناق الذي دفع حماس إلى اللجوء لإيران.
أتت سياسة الضغط السعودية على كافة الأطراف ثمارها، فقد أجل مشعل زيارته إلى طهران إلى أجل غير مسمى، وبعدها طعنت هيئة قضايا الدولة، الممثلة للحكومة المصرية، في حكم اعتبار حماس “جماعة إرهابية”.
هذا عن الإخوان الذين على الحدود، فماذا عن الإخوان الذين في الداخل؟
إقالة وزير الداخلية، محمد إبراهيم، في وقت تزامن مع أغلب التغييرات في المشهد، أمر لا يمكن أن يكون عفويًّا، في الوقت ذاته أتت تقارير من مصادر شتى أن هناك اتجاهًا قويًّا داخل الإخوان لتسلم القيادي الإخواني حلمي الجزار منصب المرشد.
خلف محمد إبراهيم الذي كان يشكل مشكلة في طريق المصالحة أو على الأقل التسوية أو التجميد، اللواء مجدي عبد الغفار الذي عمل بإدارة التطرف الديني بجهاز أمن الدولة، والذي، وفقًا لمعلومة خاصة، كان يغلب في تعاملاته منطق المصالحة على العنف.
أما حلمي الجزار، فقد تم الإفراج عنه في أغسطس الماضي، وهو من القيادات الإصلاحية داخل الإخوان، ودعا من قبل إلى تشكيل لجنة مصالحة وطنية، قبل عزل مرسي.
تغيرت الوجوه، فلماذا لن تتغير السياسات؟
(6)
المصالحة قادمة قادمة، ليس المهم الشكل الذي ستتخذه، مصالحة أم تسوية أم تجميد، المهم أنها قادمة، إذا لم تكن بقرار رئاسي، ستكون بمرسوم ملكي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست