اتسمت العلاقات العربية الإسرائيلية بالسرية في غالبية الأوقات، فبعدما كان الأمر يُعتبر سُبة على الجبين وبمثابة خروج عن المألوف قد يُكلف صاحبه النبذ من أقرانه العرب، أصبح التنسيق السري زاعقًا ويزكم الأنوف، قبل أن يتخلى البعض مؤخرًا عن سريته المعلومة في اتجاه إعلانٍ واضحٍ له.

وقد كتب «أحمد مطر» عن ذلك فقال:

الثور فرَّ من حظيرة البقر..

الثور فر..

فثارت العجول في الحظيرة..

تبكي فرار قائد المسيرة..

وشُكلت على الأثر..

محكمة ومؤتمر..

فقائلٌ قال: قضاءٌ وقدر..

وقائلٌ: لقد كفر..

وقائلٌ: إلى سقر..

وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة..

لعله يعود للحظيرة..

وفي ختام المؤتمر..

تقاسموا مربطه، وجمدوا شعيره..

وبعد عام وقعت حادثةٌ مثيرة..

لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة.

**

وقد عبَّرت كلمات  مطر بدقة عن العلاقات العربية الإسرائيلية وقت اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها السادات بين حكومة مصر وحكومة الكيان الصهيوني.

وبعد ذلك أخذت تلك العلاقات في التطور، ويبدو أن العرب تفهموا في وقتٍ ما أن علاقاتهم الجيدة بإسرائيل ستضمن لهم بالضرورة علاقات جيدة مع الغرب، وكان هذا الأمر أشبه بملاذ آمن لهم حين المرور بأزمات سياسية لتكون تلك العلاقات مُعينًا لهم عند حكومات أوروبا وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، لتدفع تلك الحكومات تجاه مرونة سياسية معهم، بجانب تنازلات أخرى تُحفز تلك المرونة.

 

في مصر ومع تصاعد نجم السيد جمال مبارك نجل الرئيس الذي كان يقبض على البلاد بالحديد والنار، كان من الواضح أن العلاقات المصرية الإسرائيلية الرسمية تشهد طفرة كبيرة على جميع المستويات، سواء الاقتصادية كاتفاقية الكويز، أو اتفاقية توريد الغاز المصري لإسرائيل، أو الاستيراد الزراعي النشط وقتذاك.

أو التعاون على المستوى الإعلامي والمخابراتي، حيث شاع وقتها الخطاب الصهيوني في الإعلام المصري، من حيث محاولة تثبيت أفكار كتلك المُدعيَّة بأن الفلسطينين قد باعوا أرضهم للصهاينة، أو أن «حماس» منظمة إرهابية تتعدى على المدنيين الإسرائيلين، أو إشاعة فكرة أن القضية الفلسطينية أصبحت عبئًا على مصر تمنعها من المُضي قُدمًا.

وكذلك على المستوى السياسي فأصبح أعداء إسرائيل هم أعداء مصر بالتبعيَّة وبشكل فج.

 

ربط المُحللون وقتها ذلك الأمر بمحاولة تصعيد الابن جمال ليكون وريثًا للحكم في مصر، وبأن ذلك الأمر كان يتطلب مُباركة إسرائيل لتلك الخطوة بما قد يُعزز من فرص مُباركة أمريكا أيضًا، وتلك المُباركات قد تكون نُقطة قوة لفرض ذلك الأمر على المُؤسسات الحكومية في الداخل، خاصة تلك التي تربطها علاقات غاية في القوة مع الولايات المتحدة.

 

ثم انقلب الحال وتبددت الأوهام وتبخرت الأحلام وجاءت الثورة لتقتل ذلك المشروع للأبد، وفي نفس الوقت كان عداء الثورة للكيان الصهيوني واضحًا كهتافهم «أول مطلب للجماهير.. قفل سفارة وطرد سفير».

كان علم فلسطين حاضرًا دومًا في قلب التحرير وفي جميع المناسبات والأحداث، ناهيك عن الكوفية الفلسطينية الشهيرة والتي التفت حول رقاب كثيرٍ من الثوار، وكذلك الشعارات الفلسطينية والهتافات ضد الكيان الصهيوني، ثم تطور الأمر لحصار السفارة الإسرائيلية في قلب القاهرة في أحداثٍ شهيرة، وكذلك سفر عشرات المنتمين للثورة المصرية إلى غزة المُحاصرة وقت اعتداء جيش الكيان الصهيوني عليها، محاولين التضامن معهم بطريقة عمليَّة وبشكلٍ أكثر تأثيرًا مما مضى، وللتأكيد على أن القضية الفلسطينية حيَّة في قلب الشعوب العربية.

وكان ذلك العداء أمرًا متوقعًا، ومُناسبًا للحذر الذي قابلت به الحكومة الصهيونية الثورة، ثم تأييدها الكبير لتجاوزها اللاحق.

هزيمة الثورة المصرية كانت مدعومة من حكومات عربية عدة، حركها هاجس خوف من أن تصل تلك الثورة إلى بلدانهم فتهز عروشهم الوثيرة من تحتهم، كذلك لم يعد من المعلوم المشروع السياسي الذي قد تتبناه الحكومات المُنتخبة المُفترض تعاقبها ضمن تعددية سياسية غير مسموح توفرها في بلادهم.

وحينما تمكن أعداء الثورة منها حاولوا طمسها للأبد بكل الطرق المُمكنة، وبعد ذلك كان من المُتوقع أن يُؤخذ أحد مسارين:

إما أن تُحاول الحكومات العربية – بما فيها الحكومة المصرية الجديدة – أن تُحقق بعضًا من تلك القضايا الجماهيرية التي شاعت على ألسنة الجماهير وفي نداءاتهم المُتكررة، كمطالب الإصلاح السياسي والانتخابي، والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثورة، والاهتمام بحقوق الإنسان والمرأة، والحد من تجاوزات الشرطة، واستقلالية القرار العربي، وأيضًا التعامل مع حكومة إسرائيل بطريقة مُغايرة عما اعتادت عليه الحكومات العربية في السابق.

وهذا المسار هو خيار سياسي للتقرب من الجماهير بما يضمن استقرار حكمهم بلا مناوشات كبيرة، وهي بمثابة محاولة جادة لنيل ثقة الناس وعدم الاحتياج المُبالغ فيه لنيل ثقة الحكومات الأخرى لأهدافٍ داخلية.

 

المسار الثاني – وهو المسار الذي سارت فيه الحكومات العربية – هو أن يقوموا بعكس كل ما طالبت به الثورة، مع تحسين العلاقات مع إسرائيل ومع الغرب بما قد يكون داعمًا لهم في تثبيت أركان حكمهم وقوائم عروشهم، وكذلك سحق أي فكرة للتمرد الجماهيري عليهم في مهدها دون خوفٍ من رد فعلٍ غربي قد يُسبب لهم أزمة.

وقد مضى الجميع قُدمًا في هذا المسار بما جعل على سبيل المثال العلاقات الخليجية الإسرائيلية أصبحت مُعلنة بالقدر الذي قد يدفع ممثلين عن الحكومة الصهيونية للدفاع عن سلطة ولي العهد السعودي ودعمه بقوة ودون مواربة ضد إدانته في قضية قتل الصحفي المغدور به «جمال خاشقجي»، وكذلك الإشادات الواسعة بالتنسيق الأمني بين الحكومة المصرية والإسرائيلية مستخدمين تعبيرات جديدة توحي بمدى قوة تلك العلاقات وحميميتها.

ورصدت كثيرٌ من المؤسسات الإعلامية الغربية ذلك التطور المهول في العلاقات الحكومية العربية الإسرائيلية، ووصفته بأنه تطور مُذهل.

وهذا التطور قد يكون دليلًا قاطعًا بأن الحكومات العربية ليس في نيتها القيام بإصلاحات سياسية لنيل رضا الجماهير، لا في الوقت الحالي ولا لاحقًا، وأنها بدلًا من ذلك استعانت بالعدو الأول لتلك الجماهير ليكون داعمًا لها ضدهم.

الثورات العربية وبالرغم من رسالتها الواضحة الداعمة للقضية الفلسطينية والمعادية لإسرائيل، تركت أثرًا مُغايرًا تمامًا لمطالبها عندما تركت الفرصة للثورات المضادة للتمكن منها وهزيمتها، فانعكس الأثر، ويبدو أن دعم القضية الفلسطينية سيبقى مرهونًا بانتصار الجماهير وسيطرتهم على القرار السياسي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

آراء
عرض التعليقات
تحميل المزيد