منذ الرابع عشر من يناير عام ألفين وأحد عشر ملاديًا، وهو تاريخ نجاح ثورة احتجاج الشعب التونسي وخلعه لزين العابدين بن علي الرئيس التونسي السابق، ومرورًا باندلاع الثورة المصرية يوم الخامس والعشرين من شهر يناير من نفس العام، ونجاحها في إسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير عام ألفين وأحد عشر، واندلاع الثورة اليمنية في نفس الفترة ونجاحها في إسقاط عبد الله صالح الرئيس اليمني السابق عبر مبادرة خليجية، عينت نائبه عبد ربه منصور هادي رئيسًا مؤقتا للبلاد، ومع اندلاع الثورة المسلحة في دولة ليبيا، وانتهائها مؤقتًا بمقتل معمر القذافي الرئيس الذي ظل يحكم ليبيا أكثر من اثنين وأربعين عامًا.
ومع الحرب المدمرة التي تشهدها سوريا عقب اندلاع الثورة بها في شهر مارس عام ألفين وأحد عشر، نظر الملايين من دول العالم لتلك الثورات بنظرة متفائلة، عن مستقبل شعوب تلك البلاد عبر حدوث ديمقراطية حقيقية، بعيدًا عن أعين الحاكم المستبد والأنظمة العسكرية التي تتحكم في مقدرات تلك الشعوب، واستقلال تلك الشعوب عن الإمبراطورية الأمريكية، التي تتحكم في العالم بأموال الإمبريالية والصهيونية العالمية، ولكن مع ضعف الثورات العربية بعد الحكم المؤقت لأحد فصائلها وقوة الدولة العميقة، وتحالفها مع القوة المهيمنة على مقدرات تلك الدول، ومن بينها المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية، وتحالفها مع القوة العالمية التقليدية واتحاد المصالح معها عَجّل بهزيمة مؤقتة للثورات العربية.
ومع رؤية بسيطة لما يحدث في محيطنا العربي وبمنطقة الشرق الأوسط، والتحرك الإقليمي والداخلي بتلك الدول، مع حدوث إتعاب وإنهاك شديد لتلك الدول من مختلف الأطراف، نجد أن الأزمات بها متشابهة لدرجة كبيرة جدًا فالصراع يختلف بدرجة كبرت أو صغرت من دولة إلى أخرى، والمتحكم فيه بدرجة كبيرة الدول العظمى، التي لا تريد لدول منطقة الشرق الأوسط نجاحًا سواء لثورات شعوبها على الظلم والحكم المستبد، لذلك سوف نجد أن كل دولة تتحدد بها بعض المعالم، تسببت في حدوث انسداد سياسي بها وعودة إلى الحكم العسكري إلى ما قبل 60 عامًا، أثناء عهود التحرر بالمنطقة.
لذلك نجد أن دولة مصر، هي المحرك الأساسي للأحداث في منطقتنا العربية؛ فعندما نجحت بها الثورة في خلع مبارك قامت الثورات في مختلف دول الربيع العربي، فيما عدا تونس التي قامت بها ثورة الياسمين، قبل الثورة المصرية وبعد عزل مرسي بعد احتجاجات شعبية، وعودة الدولة العميقة إلى حكم البلاد، عادت الأنظمة العميقة في بلاد الربيع العربي بنشوة كبيرة، وشعرت أنها سوف تنتصر على قوى الثورات بها.
فتونس عادت الدولة العميقة بانتخابات، حيث قام الشعب خلالها بتغيير حكامه من جبهة النهضة التابعة لجماعة الإخوان التي حلت بالمرتبة الثانية بالانتخابات، إلى حركة نداء تونس التي يرأسها القائد السبسي، الذي فاز بانتخابات الرئاسة لاحقًا في تونس، وهو وزير سابق في عهد زين العابدين بن علي الرئيس التونسي الذي قامت الثورة عليه، فالجدال هناك محتدم ولكن عبر صناديق الاقتراع.
ونعود بالمشهد إلى أكبر دولة في الشرق الأوسط سكانًا وتاريخًا منذ قيام الثورة المصرية، بعدما تنحى الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن الحكم، يوم السبت الحادي عشر من يناير عام ألفين وأحد عشر ميلاديًا تحول الحكم إلى المجلس العسكري، الذي حاول بشتى الطرق القضاء على ثورة الشعب المصري، بعمل مشكلات وذرائع كثيرة بين النخبة السياسية وبعضها البعض وبين الشعب وبعضه، وذلك بعمل أول استفتاء يوم التاسع عشر من مارس من نفس عام الثورة المصرية، وهو ما أدى إلى انقسام الشعب المصري بين فصيلين.
وكان أول انشقاق وانشطار لرفقاء الثورة المصرية، ما بين إسلامي مؤيد للإعلان الدستوري وليبرالي ويساري وعلماني معارض للإعلان الدستوري، الذي أصدره الجيش، وكانت أول لعبة ينجح بها المجلس العسكري ودولته العميقة في تشتيت الثورة المصرية.
وبعد ضغوط أحداث محمد محمود الأولى خلال شهر نوفمبر من نفس العام، ومقتل وإصابة العديد من شباب الثورة، ومع توالي الأحداث، وافق المجلس العسكري على إقامة انتخابات مجلسي الشعب والشورى، والتي حصل خلالها التيار الإسلامي بمختلف أطيافه بقيادة جماعة الإخوان على الأغلبية.
وبدأت التراشقات بين سلطتي البرلمان الذي جاء عقب الثورة من جهة، وبين المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي من جهة أخرى، انتهت بحل البرلمان بعد 120 يومًا فقط من انعقاده في تاريخ 12 يونيو عام 2012، وعقب حل البرلمان بأسبوعين، تمت جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية بين الدكتور محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان أحد فصائل الثورة المصرية على نظام مبارك، وبين الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، وممثل نظام ودولة مبارك والمجلس الأعلى للقوات المسلحة والدولة العميقة.
ونجح الدكتور محمد مرسي بنسبة 51%، ومنذ ذلك التاريخ دخلت الثورة المصرية منعطفًا دوليًا، تدخلت فيه الدول العظمى والقوات المسلحة المصرية وإسرائيل ودول الخليج، التي تملك المال والإعلام، وأعلنت رفضها إقامة حكومة إسلامية في مصر، قد تسبب مشكلات وأزمات على كيان دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى خطوط الملاحة الدولية بعد سيطرتها على حكم البلاد وقناة السويس بالتبعية، فتم إحداث أزمات اقتصادية شديدة بالبلاد لكي يتحرك المواطن ضد حكم التيار الإسلامي، وتم ذلك على مراحل شبه يومية حتى شعر المواطن البسيط بالقلق.
وتم الإعداد لمسرح 30 يونيو عبر استمارات تمرد التي تم تمويلها، وتأييدها من قطاع عريض من دول الخليج، ومن كبار رجال الأعمال، وقطاع كبير من الشعب الذي كان يمني نفسه بحياة أفضل بسبب شدة الأزمات التي ألمت به، وتم تأييدها إعلاميًا من مختلف النخبة الإعلامية والميديا في مصر.
وتم الإعلان عن ثورة أخرى في 30 يونيو تم تأييدها من قوات الشرطة والجيش والقضاء والإعلام الرافضين لحكم مرسي والتيار الإسلامي، ورغم أن الإعلان بتمرد هو إقامة انتخابات رئاسية مبكرة، يتم الإعداد لها وقيام مرسي بتقديم استقالته إلا أن ما حدث غير ذلك، فتم عزل مرسي وتعيين رئيس مؤقت ثم انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع رئيسًا للبلاد، بانتخابات لم يكن بها غير مرشحيْن فقط بعد إبعاد جميع المرشحين الآخرين، وتم الإبقاء بقصد على مرشح الثورة التي مرضت بشدة، وهو حمدين صباحي الزعيم الناصري وبين قائد الجيش الذي يملك ويعرف كل أبعاد وطلاسم الدولة العميقة، وعقب تلك الانتخابات رغم أن هناك قطاعًا عريضًا من الشعب المصري من البسطاء كان يريد حياة أفضل إلا أنه أصبح ناقمًا على الثورة لشعوره أنها لم تحسن أحواله المعيشية، فانتخب جنرالاً وفضَّل الأمن والأمان حسب اعتقاده على المأكل والمشرب والحريات والعدالة الاجتماعية التي كانت تنادي بها الثورة.
ومنذ تاريخ انتخاب السيسي حاكمًا للبلاد في 5 يونيو عام 2014، حدث انسداد سياسي شديد، وأصبح اهتمام الدولة هو محاربة “الإرهاب” وأغفلت جميع احتياجات وحقوق الشعب، من مأكل وخدمات صحية وتعليمية.
وأصبح كل معارض للحكومة وليس “الدولة” هو خائن وعميل، وتم تأجيل الانتخابات البرلمانية، التي لا تريدها الحكومة لخوفها من نجاح من ليسوا موالين لهم سواء إسلاميون أو من قوى الثورة، ورغبة من الحكومة في عدم ترك السلطة التشريعية والتنفيذية لرئيس حكومة ينازع الرئيس في السلطة، نظرًا للسلطات التي أعطيت إلى رئيس الحكومة بدستور 2014، وتحولت مصر إلى دولة عسكرية بامتياز، وقامت الحكومة بإلقاء القبض على جميع قيادات الثورة من الشباب، ومن جماعة الإخوان وحركة شباب 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين، وغيرهم وقامت بمحاكمتهم بقانون التظاهر الذي وضعته الحكومة لمنع التظاهر السلمي الذي أتى بها إلى الحكم، ووضعهم خلف القضبان، ورغم قيام الدولة بإعلان الحرب على تنظيم بيت المقدس أو ما يسمى “داعش مصر” داخل سيناء إلا أن الدولة فشلت بامتياز في القضاء على الإرهاب، بل تحول الإرهاب، والعمليات الإرهابية من سيناء إلى داخل محافظات الدلتا والوادي، وهو ما ننظر إليه بأنه فشل ذريع للحكومة يجب محاسبتها عليه سواء سياسيًا أو شعبيًا.
وأصبح هناك قطاع عريض من الشعب يقول أن الثورة المصرية قد مرضت وهي في مرحلة الإنعاش حاليًا.
وأن الدولة العسكرية تمكنت في مفاصل الدولة، وسوف تحكم سنينَ.
وهناك قطاع آخر يردد على استحياء، أن هناك تحالفًا سوف يتم بينها وبين جماعة الإخوان، وسوف يتم عبر عمل مصالحات سياسية، يتم خلالها إخراج مرسي وقيادات جماعة الإخوان من السجون، عبر عملية يتم الاتفاق خلالها بين الدول الكبرى في المنطقة، وذلك من أجل الاصطفاف لمواجهة الدولة الإسلامية “داعش” في العراق وسوريا وليبيا.
ولكن عندما نلقي نظرة بسطية على الثورة المصرية، نجدها سوف تمر بموجات مد وجزر كثيرة، وسوف تشهد خلالها صراعات شديدة بين جيل من الشباب المؤمن بالثورة، وبين أنظمة الدولة التي تريد ترسيخ حكم البلاد لصالحها. رغم تأييدها من قطاع آخر من الشعب، وسوف تنتهي بحكم الثورة بعد انضمام قطاع عريض من الشعب إليها، بعد حدوث أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية شديدة لن تقدر منظومة الحكم على حلها، نظرًا للانقسام الشديد بين طوائف الشعب، وهو وضع يسبب خطورة كبيرة على الدولة المصرية.
وعندما نرى بنظرة بسيطة ما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن، من جهة أخرى نجد أن قيام أمريكا وإسرائيل والنظم القمعية في بلادنا العربية، بتدعيم مختلف الفصائل سواء الشيعية والعسكرية من جهة، والجهادية والتكفيرية من جهة أخرى، وتحويل المنطقة إلى أرض الجهاد الأعظم بين الأيديولوجيات المختلفة البعيدة عن منطقتنا العربية ومحيطها، نرى أن المستفيد الأكبر من كل ذلك، هو ترسيخ الحكم العسكري، وإعادة الدولة القديمة، ولكن بمنظور مختلف عبر اختيار ما يحافظ على مصالح إسرائيل والدول العظمى في المنطقة.
فسوف نجد مثالاً على كل تلك الصراعات في سوريا؛ سوف نجد أن الثورة السورية عندما أيقن الرئيس السوري بشار الأسد أن الثورة في طريقها للنجاح، قام هو بقمعها بالأسلحة، وعندما فشل قام بتسليحها حتى يبقى هو، ولكن مع ظهور دول أخرى ودخولها على خط الأزمة في سوريا، سواء السعودية وجماعة الإخوان وتركيا وقطر من جهة بتدعيم الجيش الحر، وإيران ومصر وحزب الله وروسيا وجيش بشار الأسد من جهة أخرى، بتدعيم النظام القديم والدولة القديمة، والجهاديون وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة من جهة ثالثة، وتحول الصراع إلى صراع كوني، كل منهم يريد تدمير الآخر والقضاء عليه، ولكن مع تدفق السلاح إلى جميع الجبهات، تم تدمير سوريا، وتم نزوح أكثر من 8 ملايين من الشعب السوري في مختلف الأقطار والبلاد العربية والأوروبية، ولم يبق من سوريا غير حطام، ومع اشتداد المعارك التي استمرت أربع سنوات يتجه الأمر إلى تقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات.
والمشهد في اليمن سوف يتحول إلى صراع طويل الأمد حتى إذا حدثت تسوية سياسية بين طرفي الصراع بين مختلف الطوائف اليمنية، بسبب عدة عوامل منها:
أولاً: تحول جماعة الحوثيين إلى جيش كبير بعد استحواذ عناصرها على أعداد كبيرة جدًا من الأسلحة الثقيلة والنوعية من الجيش اليمني تهدد أي قوى أخرى في اليمن أو خارج اليمن.
ثانيًا: امتلاك عناصر القاعدة وأنصار الشريعة لأسلحة ثقيلة ونوعية وملايين الدولارات بعد اقتحام عدد من معسكرات الجيش وحصولها على الأسلحة الثقيلة، وانضمام أعداد كبيرة من شباب وشيوخ القبائل إليها لمحاربة جيش علي عبد الله صالح وجماعة الحوثيين، وتهديدها لأي قوى أخرى في المستقبل.
ثالثًا: تدفق السلاح على قبائل مأرب وحضرموت ومدن شبوة وعدن وتعز وغيرها من القبائل، وذلك لمحاربة الحوثيين والقوات الموالية لعلي عبد الله صالح، وهو ما سوف يحول تلك القبائل إلى قوة عسكرية كبيرة تكون أكثر قوة من الحكومة في المستقبل، وهو ما يضعف الحكومات في مواجهتها.
رابعًا: دخول اليمن لطريق الحرب من مختلف الجبهات، وحدوث انسداد سياسي، أضعف القوى السياسية الكبرى في الدولة منها حزب جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، والحزب الاشتراكي والحزب الناصري وغيرها من الأحزاب الكبرى في البلاد، واستمرار الوضع قد يحول تلك الأحزاب إلى الاتجاه إلى التسلح لمواجهة التيارات، والجماعات الأخرى لحماية نفسها، خاصة بعد اعتقال المئات من قياداتهم وأنصارهم.
خامسًا: أن الجيش اليمني الذي بُني على نظام عائلي وطبقي لصالح الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح يُعتبر قد انتهى بالمعنى الديناميكي وأصبح مليشيات؛ مجموعة تابعة لعلي عبد الله صالح، وأخرى للحوثيين، وأخرى للقبائل وأخرى للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وبعد تدمير عاصفة الحزم لأكثر من 60% من قدرات الجيش أصبح جيشًا ضعيفًا لا يقدر على حماية دولة بحجم اليمن، وهو ما يهدد بتقسيم اليمن إلى ثلاث دويلات بالمعنى الجغرافي والأيديولوجي؛ دولة تابعة لجماعة الحوثيين والتي تطلق على نفسها “أنصار الله “، ودولة للشمال، ودولة للجنوب.
لذلك نجد أن الثورات العربية في دول الربيع العربي قد تحولت مؤقتًا إلى خريف عربي حوّل المنطقة إلى كرة من اللهب، وذلك بسبب أن أصحاب المصالح من الدول الكبرى في العالم والدول الإقليمية والدولة العميقة والقوى العسكرية، ومعسكر الثورة نفسه قد نظر إلى مصلحته فقط ولم ينظر إلى مصلحة شعوب الدول، ومصلحتها في عيش كريم وعدالة ينعم بها الجميع، ولم ينظروا إلى نقاط تفاهم يتوصل إليها الجميع عبر ديمقراطية حقيقية يتشارك بها الجميع للعبور بالبلاد إلى بر الأمان، ولذلك سوف يتوصل جميع المتصارعين والفرقاء، بعد مشوار طويل من الصراع والحروب يقتنعون خلاله أنه لا بد من التوصل إلى حل وتسوية مشتركة بينهم، بعدما يتوصلون إلى أن الجميع قد خسر ما بجعبته، لا يوجد منتصر، ولكن الجميع مهزوم وخاسر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست