“تظهر الأشياء لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم”.
– أفلاطون

أتعجب وأستغرب وأقف مشدوهًا من ذلك الشخص الذي يستأثر بصك “الحَقيقة المُطلقة” التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها، وما يزيد الطين بلة هو إيمانه بفرضها وتطبيقها على الآخرين غير المؤمنين بحقيقته المطلقة أصلاَ، وإذا ما افترضنا -بحسن نية- حصول نقاش معه فسرعان ما ستجده يتشدق بكلماته اليقينية وتعبيراته الأصولية دون تفهم أو حتى محاولة لاستكشاف كيف يفكر ذلك الشخص الذي أمامه وما أسبابه ودوافعه للانغماس في ذلك “البَاطل المُطلق” طبقًا لما يراه.

 

ولهذا فلا غَرو أن يصبح مثل هذا الشخص تواقًا لفرض حقيقته بالقوة والعنف، ولن يَجد في نَفسه تثريبًا أو حرجًا أن “يتلغم” ليلقي بجسده في ثلة من هؤلاء المخالفين فينفجر ويبيدهم عن بكرة أبيهم فيستحيلون رمادًا، فيغدو هو الظافر الشهيد في سبيل قضيته.

ربما يعتقد البعض أن الايمان بالدين يتعارض مع نسبية الفكر والرأي، فلا إيمان إلا مع اليقين المطلق، وإلا استحال الإيمان كفرًا بواحًا ومحض إلحاد، بيد أن النسبية لا تتعارض، وإنما هي تدعو إلى اختيارك الحر في معتقدك ويقينك وحتى مزاجك وما تستسيغه وما تمقته من أمور شخصية.

فحتى ذلك الحق المطلق الذي تؤمن به والمتمثل في دينك أو معتقدك فإنك لا تستدل عليه بـ”البرهان المطلق” وإنما يخضع الأمر لسطوة الهوى ووطأة الميل ومحاولة التفسير الذي يتباين من عقل لآخر.

فتملّك هذا “البرهان المطلق” الذي لا شك فيه ولا ريب يعني تبخر وانتهاء منظومة الدين بأكملها ويتبع ذلك إيمان الجميع بذلك البرهان واليقين المطلق، فلا عاقل سوف يدحض هذا الدليل أو يكفره، وكيف ذلك؟ وكيف سيغدو ثمة كفر وإيمان أو جنة ونار؟ وأين يربض الاختلاف -الذي هو سنة كونية- بعد ذلك؟

ينبثق جل العنف والفساد من ذلك الفكر المتحجر القائم على مبدأ التسليم المطلق للسلطة الدينية والموروث الاجتماعي دون إعمال لعقل أو السؤال في إن كان هذا صالحًا أم طالحًا، فلا تجد ذلك الشخص يتساءل يومًا عن ماهية ما توارثه من آبائه من معتقدات أو عن كينونة ما يمارسه.

وهل هو متشبث بذلك إيمانًا نابعًا من ذاته أم إيمانًا بسياسة القطيع والجموع فحسب وأن ذلك هو الدرب الآمن الأسهل، فلو كان سبيله للإيمان قائمًا في جذوره على الشك والحيرة والتردد والتساؤل، فلربما التمس بعض العذر أو التفهم لهذا المشكك أو الملحد بمعتقده، وأنه إنسان طبيعي وكل ما يعمله هو البحث عن الإيمان والحق مثلما فعل هو من قبل، وإذن فهو لا يستحق تلك النظرة الدونية أو الحوار القائم على الشفقة والاستعلاء لا البرهان والاحترام.

وعلى الجانب الآخر تمامًا تجد شخصًا آخر يحاول الخروج عن سياسة القطيع والموروثات والعادات، لا بدعوى العقل والاقتناع والإيمان وإنما رغبةً في إثبات الذات وتعزيز أهميته وإبراز عقليته الفذة وسط الآخرين من خلال اختلافه عنهم وجنوحه عن التقليد، وأنه استطاع أن يكسر ما قد عجزوا عن مواجهته من خطوط حمراء أو تابوهات، أو حتى بدعوى التحرر والاستسلام للهوى والشهوات دون قيد أو شرط.

لهذا فلا مناص لنا من الإصغاء والاستماع باكتراث لذلك الفكر المخالف مهما تجلى شاذًا وغريبًا، فلا هي دعوة للذوبان والغرق في الموروث وفرض الرأي بالعنف، ولا هي دعوة للانسلاخ والتحرر المطلق وجموح الشهوات والملذات، وإنما دعوة للارتكاز على نسبية الحقائق والمسلمات ومحاولة تفهم أن عقول البشر وأهواءهم متباينة، وأنه لن يستقيم النظر من زاوية واحدة أو عقل واحد، وإلا استحال التاريخ البشري بأسره حجرًا جامدًا لا عقولًا ترى وتفكر وتخطئ وتصيب، ومن ثمَّ تطور وتضيف.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد