شهد الخطاب الديني في السنوات الأخيرة تطورًا لافتًا في ملف المرأة، فلم تعد مسائل كالقوامة، وضرب الزوجة، وطاعة الزوج، ونقصان العقل، وغيرها، فضفاضة مترهلة تسع في داخلها ما هب ودب من أفكار وأحكام توحي بها البيئات والمجتمعات على اختلافها مما يخالف ما جاء به الإسلام.
وما كان يشغل بال الدعاة المهتمين بقضايا المرأة فيما مضى أصبح الكثير منه أمرًا واقعًا اليوم، مثل تعليم المرأة، وجواز ذكر اسمها، وحكم صوتها، وحقها في المشاركة المجتمعية والسياسية وفي مجالات الحياة المختلفة، بل وحتى أن الأمر تطور فغيرت كثير من الاتجاهات الإسلامية أفكارها، وأصبحت تعمل على وجود نساء في بنيانها ولو على سبيل الصورة الظاهرية لا الفاعلية الحقيقية، وهو ما كان مرفوضًا قبوله، أو الحديث عنه، أو التفكير به فيما مضى.
تخلف الشأن الديني عن تغيرات الواقع
ولكن على الرغم من التطور الكبير الحاصل، إلا أن المعالجة الدينية، سواءً على صعيد الخطاب والدعوة، أو الفكر، أو الفقه، ما يزال متخلفًا عن الواقع بعشرات السنوات الضوئية بل أكثر. يقع بعض المتصدرين للشأن الديني بإشكاليات كبيرة، وتناقضات عجيبة، بتمسكهم السطحي بمنظومة إفتاء، ومسلمات، أصبحت عبئًا على الواقع!
ففي موضوع عمل المرأة مثلًا تبدأ المقدمة اللطيفة المرضية: «لقد كفل الإسلام للمرأة حقها في العمل أو الكسب المادي، وجعله خيارًا متاحًا لها، بل وفي بعض الأحيان أوجبه عليها، لكن! و«لكن» هذه لها ما بعدها وقد تنسف ماقبلها!
لكن مهمتها الأولى والأساسية هي البيت بما يتضمنه من رعاية للأطفال والمهام الزوجية؛ فإن أمكن لها أن تكون امرأة خارقة تعمل كالرجل في الخارج، وكالساحرة في الداخل، دون أن يخل ذلك بمهامها الأولى التي أناطها بها الإسلام، فبها ونعمت، وإلا فإن لها الجلوس في البيت، وزوجها مكلف بالإنفاق عليها.
يبدو الأمر للوهلة الأولى منطقيًا جدًا بهذه البساطة؛ فالمرأة في هذا التصور ليست مضطرة للعمل، وتختاره من مبدأ الرفاهية النفسية، وليس عليها من الحياة إلا أن تكون أمًا جيدة، وزوجًا مطواعة، تعيش آمنة مطمئنة يأتيها رغدها من كل مكان، إلى هنا تتوقف سيالات التفكير عند الكثير من مشايخ العصر، دون أن يفكروا بأن من حولها قد يكفرون بها، وبصنيعها، فتأتيها بعد ذلك ضربات الحياة ونوائب الأقدار من كل مكان!
هذا التصور الساذج الذي يعشعش في أذهان بعض الدعاة الإسلاميين ليس إلا مثالًا عن تمسك أعمى بأفكار ومفاهيم سادت في الأذهان، مستوحاة من كتب التاريخ، وحكايات الجدات، ومسلسلات «حاضر ابن عمي»، كمثل صورة الحاكم المتغلب، والخليفة الإمبراطور، وتقسيمات العالم لدار حرب، ودار إسلام، إلى آخره من مفهومات مازال البعض يحلم بتنزيلها على الدولة المدنية الحديثة، إلا أن تغيير الثانية أسهل من الأولى لديهم!
الحقيقة بين الواقع والمخيال
النموذج السابق للمرأة المرتاحة طيلة حياتها في بيت الزوجية قد لا تمثل إلا نسبة محددة جدًا من الواقع، لكنها لا تشمل الحالات والنماذج الأخرى التي يعج بها حاضرنا، والتي تفرضها طبيعة المجتمعات المادية بمختلف بيئاتها اليوم.
فالمرأة في عصرنا لم تعد ترتاح لفكرة أن تكون عالة على غيرها من الصغر للشيخوخة وهي قادرة على أن تكون غير ذلك، بل أصبح مفروضًا عليها أن تتعلم، وفي سن معينة تصبح قادرة على إعالة أسرتها فتتوجه للعمل، ولم يعد الأب في كثير من الأحيان يستطيع أن يتكفل بنفقات أولاده كبارًا وصغارًا كما في السابق، ولم يعد الأخ بإمكانه أن يفكر في أكثر من بناء أسرة يستقل بها، ويكون معيلًا لها، ولم يعد هناك نظام مجتمعي متماسك، تغير العالم في نظرته وسلوكه بما فيه العالم الإسلامي، ولم يعد لدينا بيت «مال المسلمين»، والذي يخصِّص جزءًا من نفقاته لصنوف مختلفة من الناس، ممن لا يجدون معيلًا لهم، والخليفة الذي كان يتكفل بالأرامل والمطلقات كمثل عمر رضي الله عنه الذي قال (لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أرَامِلَ أهْلِ العِرَاقِ لا يَحْتَجْنَ إلى رَجُلٍ بَعْدِي أبَدًا) ولى زمانه وغاب أمثاله.
ولم يعد هناك فوق ذلك أوقاف تهتم بالمطلقات، والأرامل، والمعنفات، على غرار ما كان يوجد في صدر الحضارة الإسلامية التي دخلت الأوقاف فيها بأدق تفاصيل الحياة.
من هذه الأوقاف ما نقله الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه الحضارة العربية الإسلامية عن وقف تذهب إليه النساء اللائي يقع نفور بينهن وبين بعولتهن فيقمن آكلات شاربات تسمى «دار الدقة» وهي التي تدق على يدي الزوج الظالم المسيء في معاملته حتى توقفه عند حده. ومثله ما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان عن رباط الأندلس الذي كان وقفًا للعجائز المنقطعات، والأرامل، وقد أجرت لهن صاحبته رزقًا. وغيرها مما تعج به الكتب من مفاخر في حضارتنا الإسلامية.
مقارنة بسيطة بين الماضي والحاضر، ظروف الحياة، طبيعة المجتمعات، متطلبات العصر، القيمة المادية للأشياء والأثمان، الحقوق المقدرة، نظرة المجتمعات للمرأة والرجل ووظيفة كل منهما… وغيرها من تفاصيل كلها أصبحت مختلفة تمامًا عما مضى، وليس مقبولًا أن نخاطب الناس بلغة تغفل همومهم، واحتياجاتهم، ومشكلاتهم، وقدراتهم، وحقوقهم وواجباتهم التي استجدت في واقع مختلف.
في المثال السابق كثير من الحالات تدرس المرأة وتتعلم، وما إن تبدأ في العمل، أو حتى قبل ذلك تدخل عش الزوجية فتترك خلفها ما تعلمته، لتعيش حياةً جديدة وتتصدر لهمومٍ مختلفة، لكن ماذا لو أنها طلقت بعد سنوات من المكوث ترعى أولادها، وتمهد أسباب الكسب والنجاح لزوجها؛ ستجد نفسها في مجتمع يقول عنها «مطلقة» في أسرة خرجت من مجتمع ينظر لها في ثقافته المعتلة نظرة استثقال، وتوجس، واتهام، وستجد نفسها مسلوبة الكرامة والإرادة، تنتظر أن يتحنن عليها أخوها من هنا، وعمها من هناك، وخالها من جهة أخرى.
بعد أن مكثت في البيت لتلك المهمة المقدسة، و أضاعت سنوات شبابها حتى شاخت عظامها، وتراجعت قدراتها وتأخرت عن ركب الحياة العملية، وما تتطلبه من مؤهلات، وشهادات، وخبرات، تستطيع بها أن تدخل سوق العمل معززة مكرمة، تجد نفسها في معترك الحياة وقد استنزفت نفسها ليبني زوجها نفسه!
يعمي الخطاب الديني بصره عن هذه الحقائق وهذه الهموم والأوجاع التي تقض مضجع المرأة المسلمة، يستمر بترديد نفس العبارة: (الإسلام فرض لها من ينفق عليها)، لكن أين من ينفق عليها؟ إنه ابن المجتمع الجديد!
حق لا فضل ومنَّة
ما لم يدركه هؤلاء المتصدرون أن الزمن سيتجاوزهم، والحياة تمشي دون أن تتوقف لانتظارهم، وهم يغيبون في أنفاق الجمود والتعنت.
أين الفقه الإسلامي من دراسة جديدة تواكب فقه الواقع وتقدر حال الزوجة فتفرض لها حقًا ماليًا من المال الذي يجنيه زوجها في مقابل الكد والرعاية وحبس نفسها له ولأطفاله، هذه الفكرة ليست مستحدثة، فقد ورد ما يقترب منها لدى الفقه المغربي، وخصوصًا عند الفقيه المالكي ابن عرضون الذي أصدر فتوى حول خدمة النساء في البوادي للزوج بالدراس والحصاد فقال «لهن قسمة على التساوي بحسب الخدمة».
وقد فُسِر قوله بأن كفاح المرأة أثناء الزواج ينبغي أن يوضع في الحسبان.
النقاش حول «اعتبار عمل المرأة داخل البيت يجب أن يثمن» ما زال أمرًا غير وارد لدى الإسلاميين، نقاش تجاوزته المجتمعات المتحضرة، وهو ليس بدعًا من القول وليس هو الأمر الوحيد الذي تغيرت النظر إليه والتعامل معه، لم يكن يخطر ببال أحد أن يصبح للوقت قيمة مادية، وللكلمة قيمة مادية، وللحرف قيمة مادية، وللاستشارة الأسرية قيمة مادية، وغير ذلك من أثمان مستحدثة، فلم يفتح البعض أفواههم بالاستنكار، وبالاتهام بالمادية، والطمع، والجشع، ومخالفة الشريعة، لاعتبار ما تقوم به المرأة في بيتها عمل ينبغي أن تكون له قيمة، وقد توسعت المهام وكثرت المسؤوليات، فأصبحت المرأة تنوب عن الزوج في معظم مهام الحياة من تسوق إلى توصيل الأطفال إلى تعليمهم إلى تيسير معاملات الحياة إلى الطبخ والتنظيف، بل حتى الإصلاح وشراء ما يلزم بما فيه ملابس زوجها وأدق احتياجاته، وهو منشغل في عمله عن تكاليف الحياة الأخرى التي فرضها الواقع!
أين المتصدرون للشأن الديني من معالجة واقعية توازن بين حاجات المرأة ومشكلاتها الواقعية وطبيعة الحياة، وبين الخصوصية الإسلامية للأسرة التي تثمن دور المرأة الأسري وتعطي القوامة فيها للرجل!
لماذا يتأخر المفكرون الإسلاميون في المسائل الاجتماعية عن إدراك ما أدركته الأمم الأخرى التي اعترفت بعمل المرأة في بيتها وصنفته كعمل يستلزم حقوقًا آنية ومستقبلية.
إلى متى سيبقى الخطاب الديني يحمّل المرأة وحدها مسؤولية الثبات على المفاهيم والقيم دون أن يدعو إلى تقاسم الأعباء لتستقيم الحياة وفق تصورنا الإسلامي، فيسعى لإيجاد حل عادل ينصف الطرفين، ويقدّر الحالة العامة، وينظر لحالة كل أسرة على خصوصيتها وقدرات أفرادها ومجهودهم؛ مما يساعد المسلم والمسلمة في المحافظة على بنيان الأسرة كما دعا إليه الإسلام دون أن تجد المرأة نفسها بين خيارين، إما التخلي عن مسؤلياتها الأسرية مقابل مسؤليات الحياة الأخرى، أو تكون مضطرة للقضاء على مستقبلها لتكون تلك الشمعة التي تحترق دون أن تكون قادرة على إعادة بناء نفسها مرة أخرى!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست