لا زلت أذكر ذلك اليوم في الجامعة الإسلامية ونحن في بداية مرحلة الدراسات العليا حين سألَنا الأستاذ عن رأينا في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وحين همّ الطلبة بإبداء آرائهم كما طُلب منهم بين مثبت للإعجاز في القرآن باعتبار أنه كتاب سابق لذكر الكثير من المكتشفات العلمية الحديثة وبين منكر للإعجاز العلمي في القرآن باعتباره وحيًا من السماء جاء ليبين للناس منهج الهداية ولا يجب تحميله ما لا يحتمل وكانت لكل فريق أدلته التي يستند عليها.
إلى هنا كل شيء عادي فهذا الجدل القائم بين مثبتي الإعجاز العلمي في القرآن والمنكرين له قديم قِدم النظريات الفيزيائية والمكتشفات العلمية والفلكية ولكل الحق في أن يتبنّى الرأي الذي يراه الأصوب.
الشيء غير العادي أن الأستاذ كان يقاطع كل طالب يقول رأيه، سواء بالنفي أو الإيجاب بقوله: من قال بكلامك هذا من المشايخ قبل؟ ليردّ الطالب: هذا رأيي الخاص. يمتعض الأستاذ من إجابة الطالب ويقول: لا أريد آراء من عندكم. تعلموا أن تستندوا إلى أقوال السابقين من المشايخ والعلماء! وقد تكرّرت مقاطعته هذه كل مرة كان طالب يدلي بدلوه في المسألة الخلافية بشكل مستفز. بدأ الطلبة ينقّبون في أذهانهم عن أسماء يتخذونها عُكّازا لإجاباتهم. وبدأت جذوة حماسهم الذي بدأوا به الحصة تخبو. فما لبثوا أن سكنت الحصة فلا طالب يقول رأيه – عفوا بل رأي من سبقه – ولا طالب يجرّب حتى أن يفكّر بنفسه في المسألة بعد أن وأد الأستاذ آراءهم في قبور الأولين.
ما جعلني أرفع يدي طالبًا الإذن بالكلمة، فأذن لي وقد ظن أني سأتكلّم في موضوع الإعجاز. بدا لي من علائم الدهشة التي ارتسمت على وجهه أن سؤالي باغته وقد حسبه ضربًا من الهرطقة والزندقة ودعوة لإشاعة التفكّر والتفكير – والعياذ بالله – إذ كان سؤالي كالتالي: إلى متى سنظل نعتمد على أقوال السابقين دون أن يكون لنا أدنى حق في استخدام عقولنا للتفكير ولو لمرة واحدة خاصة أننا طلبة دراسات عليا مما يعني أننا مشاريع باحثين ومفكرين ومجتهدين.
كيف للطالب أن يطوّر ملكة التفكير عنده وأنتم تحرمونه من إبداء رأيه حتى في حصة تعليمية ولو كان ذلك من باب الدربة للفكر وإعمال العقل. هل يُعقل أن نبقى مجرّد ناقلين للمعرفة دون أن نجرأ على إنتاجها، ثمّ من أغلق باب الاجتهاد بعد المتقدمين ومن كتب على عتبته أن ليس للمتأخرين نصيب إلا اتباع من سبقهم دون نقد أو اعتراض أو تجديد. وإلى متى سيظل عقل الطالب عقلًا نقليًا لا عقلًا نقديًا؟
لن أنقل كل ما جرى بعدها، فبخيالكم الواسع تستطيعون إكمال وتركيب بقية المشاهد الناقصة من القصة. ولن أخبركم كيف كانت إجابته؛ لأن السؤال تحوّل إلى هجوم مضاد؛ خاصة أن سؤالي تضمّن كلمات تكاد تكون كفرية بالنسبة للأستاذ، ككلمات: اجتهاد، تفكير، تجديد، تقليد… إلخ.
لكنني اليوم وبعد كل هذا الوقت من التأمل والتفكير أستطيع أن أقول جازمًا ودون أدنى مداراة أو مواربة إن مناهج التدريس الدينية وطريقة تقديمها للطلبة في أغلبها موجهة للتكرار والترديد لا لإعمال العقل والتدبر والتفكير وهذا أخطر شيء يمكن أن يدمّر العقل الديني للطالب.
فالنظام التعليمي الذي يعادي الفكر ويمقت الفلسفة وعلم الكلام ويحرّم المنطق بحجة «من تمنطق فقد تزندق»، ويقدّم النقل على العقل، ولا يعتمد في بنائه المعرفي إلا على التكرار والترديد وتلقين المعلومة دون تمحيصها وتحليلها ومناقشتها أو حتى الشك والتفكير فيها. لا ينتج إلا عقولًا قاصرة عن فهم الواقع فضلًا عن مواكبته ومجاراته. لأنه بهذه الطريقة يعمل على تنميط العقول وانغلاقها بدلًا عن البحث عن الفروقات بينها، والاستثمار فيها لتنفتح بعدها على كافة المعارف الإنسانية لفهم الإنسان ومقتضياته. غير ذلك فإنه يقتل التفكير عند الطالب ويحرم العقل من لمسته الإبداعية، ولكم أن تطّلعوا على رسائل الماستر والماجستير أو حتى الدكتوراه لتروا العجب العجاب. إذ إن الرسائل تكاد تخلو من لمسات أصحابها؛ إذ كلها نقولات في نقولات وعزو في عزو.
بل إن جلّ المشايخ الذين تكوّنوا تكوينًا دينيًا محضًا متشابهون في أفكارهم وخطاباتهم الميتة المكرورة، فإمّا دعاة غوغائيين أو وُعّاظًا استعراضيين أو أئمة مجيّشين لا وجود لأي فروق عقلية أو فكرية بينهم، نسخ كربونية مشوّهة، مغلقة ومتقوقعة على ذاتها وتراثها، يردّدون نفس كلام القرون السابقة دون أن يجرؤوا على إحداث قول جديد في مسألة حادثة ودون أن يمتلكوا عقلًا ناقدًا يناقش القضايا الطارئة والمستجدّة أو ما يسمى بفقه الواقع.. وهذا ما جعلهم يتخبّطون في ما بات يعرف بأزمة الاجتهاد الديني.. وهذا ما أفرز للأمة صنفين من المشايخ كل صنف أشرّ من الثاني.. فإما متطرفون تكفيريون قرأوا آية السيف ولم يجاوزوها فانشغلوا بالمبنى عن المعنى.. وإما مشايخ سلطان تزلّفوا للحاكم حد التعصب قراوا أن للإمام حق الطاعة فظنوا أن طاعته عقيدة كطاعة الله ورسوله.
لذلك كان ما كان مما نرى من فتاوى شاذة واستدلالات باطلة وقياسات منكرة ونقولات يمجّها العقل السويّ مجّا، فكاد بذلك يضيع حسّ الأمة السليم وعقلها النقدي في ركام الجهل والتخبّط المعرفي، لولا المفكّرون الذين حملوا على عاتقهم رفع راية إصلاح الخطاب الديني ونقد العقل المسلم وتنقية التراث ممّا يشوبه.
لأنه لا أحد ممن تكوّنوا تكوينًا دينيًا محضًا استطاع أن يرفع راية تجديد الخطاب الديني بعد أن حبس عقله في نقولات الأولين. اللهم إلا بعض المساهمات القليلة التي نراها اليوم من بعض المفكرين الذين أطلقوا عقولهم من عِقال التبعيّة المقيتة ومزجوا العلوم الدينية بباقي العلوم الإنسانية.
لذلك يجب أن يكون دور التعليم الديني الأساس تنمية التفكير العقلي لدى الطالب لإبداع تصوّرات وأفكار مقنعة تتلاءم وروح العصر، لا ممارسة الدعوة وتنميط التفكير وتقزيم العقل بمناهج نقلية خالية من المنهج النقدي ومثقلة بالقراءة الأحادية والرأي الواحد.
وحينها لا بدّ لعباءة الدين أن تجتمع مع قبعة الفلسفة ليمتزجا مع باقي العلوم الإنسانية الأخرى فتتكامل العلوم وتتلاقح المعارف لأجل إصلاح وتجديد الخطاب الديني بنقد العقل المسلم ومُساءلة التراث وتحرير العقول لتنتج لنا حينها فكرًا راقيًا بعيدًا عن الجمود والتقليد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست