هناك سؤال ملح ينبغي أن نوجهه إلى أنفسنا، وإلى نخب ومثقفي العالم العربي، لماذا كل هذه المشاكل والاضطرابات والمحن هي من نصيب جمهوريات المنطقة العربية، اليمن، سوريا، ليبيا، مصر، لبنان، تونس، وبدرجة أقل حرجًا ربما في الجزائر، هل الأمر متعلق باضطرابات انتقالية سيتجاوزها التاريخ نحو تعميق وترسيخ للجمهورية كقيمة سياسية عليا، والديمقراطية كنموذج حكم يضمن حضور المواطن في القرارات السياسية التي ستنعكس عليه، أم هو مأزق تعايش بين طبيعة المجتمع العربي التي يشير إليها ابن خلدون في مقدمته، وبين الجمهورية كقضية ينظر إليها على أنها استمرار للمستعمر، وأن المجتمعات العربية لا يمكنها إلا أن تنتظم تحت سقف عائلة، أو قائد وحيد، ومصدر وحيد موزع للسلطة وضابط لها، وكأن الجمهورية هي لعنة تعيشها المنطقة العربية، وتنتظر الجماعة العربية، سواء قبيلة، أو إثنية، أو طائفة، الفرصة السانحة لتقويضها والارتماء في حضن سلالة واحدة تتواءم مع الطبيعة الاجتماعية في شقها السياسي للإنسان العربي.

يبدو أن أي محاولة لبناء تفسير لمأزق الجمهورية، وتحولها إلى لعنة، بعد أن كانت وجهًا في الكثير من الأحيان للانعتاق من الملكية (مصر، اليمن، ليبيا) من جهة، ومن الانعتاق من مستعمر محتل من جهة أخرى (كالجزائر مثلًا وسوريا)، تصطدم بثنائية صلبة، أولها هي التي تطرقنا إليه سابقًا، أي إشكالية التعايش بين الجماعة العربية، والجمهورية الديمقراطية، وثانيها، هو أن الجمهوريات العربية الحالية هي نسخ غير مكتملة، وغير ناضجة عن جمهوريات الغرب، كالجمهورية الأمريكية، والفرنسية مثلًا، لا بد من فك هذه الثنائية، وتحليل كل عامل على حدة، رغم أن مناقشة موضوع كهذا تبدو وكأنها تسير عكس تيار المنطق، من منطلق أن الجمهوريات تبدو مساحات أوسع للنقاش والمبادرات، ومشاركة الشعب في تسيير شؤونه وقضاياه مقارنة بالدول الأميرية، والملكية وغيرها من أنظمة الحكم المبنية على العائلة، أو السلالة.

لكن الواقع العربي يبدو أنه خارج الإطار المنطقي للسياسة، ففي الوقت الذي كان ينتظر من القذافي في ليبيا، أن يرسي قواعد جمهورية صلبة، أو جماهيرية كما يحبذ أن يسميها، بعد الانقلاب على ملك ليبيا أواسط الخمسينات، تحولت ليبيا الجمهورية إلى مؤسسة عائلية، لا تستوفي حتى الشروط المؤسسية لقيام الدولة، لتكون ليبيا جماهيرية بالاسم فقط، ربما كان تعريف الجمهور عند القذافي، هم آل القذافي فقط، ومن يسير في ركبهم، والأمثلة يمكن سحبها على مصر كذلك، حيث تحولت مصر بعد الملك فاروق إلى مؤسسة عسكرية ضخمة، يفوق فيها النفوذ العسكري نظيره المدني، في المقابل، نجد أن الرخاء، والرفاه، وفي بعض الأحيان الحريات، وعملية الاتصال السياسي تسير بوتيرة أكثر جرأة في ملكيات المنطقة العربية، التي تحكمها عائلات وحيدة، والتداول يتم في مستويات دنيا، أو ينعدم في بعض الأحيان.

التفسير الأول، للعنة الجمهورية، ومأزقها، ينطلق من فرضية أن الجماعة العربية، هي جماعة غير قادرة على تأطير نفسها ضمن جمهورية، وبدرجة أكثر ديمقراطية، أي أنها قضية تعايش بين مجتمعات ثانوية، وبين نخب منها تتداول حكمها ضمن قواعد محددة ومتفق عليها، وأنها تنزع إلى حكم السلالة وحكم العائلة الواحدة، ضمن تصور أن استقرار النخب الحاكمة ينجر عنه استقرار المجتمع ومصالحه، وهنا تبدو قضايا التداول، وأحقية الشعب في حكم نفسه مجرد تقاليد أجنبية عن البيئة العربية، أو أنها وسائل للتفرقة وإثارة الخلافات حول السلطة والنفوذ والقيادة، ضمن منطق يرفض التحزب، أو العمل المدني، التعددية، والمخالفة إلا في إطار ما يتيحه القائد الوحدوي الذي ينتج التداول وتجديد السيطرة على المجتمع من ذاته، أي عن طريق سلالته وعائلته وما يوصي به، تبدو الأمور على أنها صفقة حكم، تتنازل الجماعة عبرها في حقها في المشاركة في السلطة، لصالح جهة تحكم وتنتج من يخلفها.

وقد يجد هذا المنطق ما يفسره في النظرية والنظرة الدينيين، فالجمهورية لم تعرفها التجربة الدينية، بل عرفت قادة يحكمون طوال حياتهم، ويعينون من يخلفهم، أو تقوم فئة صغيرة بذلك إذا لم يتسن للحاكم فعل ذلك، إذن، وتسليمًا بهذا الطرح المجتمع العربي، ليس مجتمعًا جمهوريًّا حرياتيًّا قادرًا على إنتاج التعددية السياسية، وتجديد اختياراته لمن يحكمه، وكأن العرب يختارون قائدًا واحدًا، ليحكمهم فيستقل بذلك التعيين عنهم، فيحدد مصائرهم مستندًا إلى الشرعية الأولى، فيعيش الجيل الحالي ضمن خيارات وظروف لم يساهم في بنائها، وأقلمتها مع حاجياته المتطورة والمستجدة، وهنا تجد الثورة مدخلًا ملائمًا.

التفسير الثاني، هو على عكس التفسير الأول، يتناول المشكلة في جوهرها، وليس ضمن علائقيتها بقضايا المجتمع وبيئته، فينطلق من تساؤل، محرج لكنه يبدو صائبًا، هل جمهورياتنا جمهوريات؟ أم أنها نسخ مقلدة لجمهوريات أخرى، أم أنها ملكيات بدون عائلات مالكة، وبدون ملك، أي ينصب القائد الجمهوري نفسه على رأس المجتمع، فيحكم طوال حياته، ويعين من يخلفه قبل وفاته، أو يترك ذلك العمل لحفنة من المجتمع، كقيادات حزبه، أو النخب العسكرية النافذة التي تدعمه، أو هو منها، أي أنه ليس هناك اختلاف كبير بين عقلية الملك، وعقلية الجمهوري في المنطقة العربية، أي أن كليهما انطلق من الشرعية الدائمة، وإقصاء فرضية التداول.

فالثقافة السياسية واحدة بين الملكيات والجمهوريات، والفارق هو الشكل، وهذا التفسير قد يتكامل ويتلاقح مع التفسير الأول، فما دام هذا القائد “الجمهوري” هو منتج لجماعة غير جمهورية “بطبعها” فلا ينتظر منه أن يشكل فارقًا، أو يحاول الاصطدام بالجماعة التي أتى منها، بالعودة إلى عنصر التقليد، يبدو أن الجمهوريات العربية نسجت عبر طريقتين، الطريقة الأولى هي أن الشعوب المستقلة حديثًا وجدت نفسها مرغمة على تقليد النموذج الذي استعمرها، فأخذت بالجمهورية، وشوهتها استعلاء وانتقامًا من صانعيها الأصليين، وهنا تولد جمهوريات لغير الجمهوريين، وجمهوريات لم تولد من رغبة المجتمع في ذلك، بل هي عملية ميكانيكية مملة ومجهدة، فلا ينبغي أن ننسى أن سر النجاح في أي شيء هو الإيمان به، فهل يا ترى آمن جمهوريونا بالجمهورية؟

يبدو أن التفسيرين السابقين الأكثر شمولًا وإحاطة بالموضوع مع التشديد على أن الفكرة ليست مفاضلة الجمهوريات على الملكيات أو العكس، لأن المفروض هو أن الشعوب صانعة مصائرها، لكن منطق السياسة يشير إلى أنه ينتظر من الجمهوريات أكثر مما ينتظر من الملكيات، رغم نسبية القضية، فالملكية والحكم الوراثي يتبعهما شعور باطني بالتصلب، والانغلاق، فيما تنبئ الجمهورية بالانفتاح والانعتاق، والمبادرة، والمشاركة، على الرغم من أن الواقع العربي منفصم عن هذا الطرح، فبمقارنة ليبيا وقطر، وسوريا والإمارات، وغير ذلك من الثنائيات الجمهورية- الملكية (الوراثية)، نجد منطق السياسة يتهاوى أمام واقع المنطقة العربية، فالملكيات أصبحت وسائل للرفاه، فيما أصبحت الجمهوريات سجونًا ومعتقلات كبيرة، رغم أن كليهما يحملان من الغلق السياسي الكابح لاعتبار أحدهما كنموذج وكواقع مثالي.

ينتظر من الجمهوريات العربية، أن تكون جمهوريات حقيقية، وأن تحقق ما ينتظر منها، وأن تتحول من واقع اللعنة، إلى واقع أفضل للتعددية، والانفتاح، والحرية، وغير ذلك من قيم الجمهورية التي نقرأها في الأدبيات السياسية النظرية، وأن تبتعد عن الفئوية، والعسكرة، والحزبنة المغلقة، وأن تكون كما يجب أن تكون، لا كما يريد مسيروها ومهندسوها أن تكون، وأن تعود إلى المجتمع ولا تعيش في حالة انفصال عنه وعن تطلعاته، من الضرورة أن تولد جمهوريات جديدة تحمل من النزعة الجمهورية أكثر من النزعة الفردية والتفردية، وعلى المنطقة العربية أن تدشن عهدًا جديدًا من الجمهوريات الحقيقية الأصيلة، والنابعة من إيمان ومن قناعة سياسيين، ومن رغبة مجتمعية ساهرة على نحتها وتقويمها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد