بين الفينة والأخرى يظهر رجال يحملون ألقابًا رنانة، ولكنهم في ذات الوقت يمتازون بالتسرع في الأحكام، يحملون على الحديث النبوي الشريف وعلى أصحابه ويشككون المسلمين في هذا الأصل الأصيل، والركن الركين.. من خلال الطعن في صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الغمز فيهم، وكذلك النيل من أئمة الحديث ورواته ورميهم بالإفراط أحيانًا، وبالتفريط أحيانًا أخرى، معتمدين بذلك على كتب الشيعة والمستشرقين، ومن سلك مسلكهم من العلمانيين والليبراليين.
فهم لا يكفون أبدًا عن تشويه معالم الدين؛ لأن حقدهم عليه وعلى كل ما يمت إلى البعث الإسلامي بصله أضخم من أن يداروه، ولو بالخداع والتمويه، إنها الجبلة الواحدة، والخطة الواحدة، والغاية الواحدة.
وإن ذلك ليكشف عن كزازة طبيعتهم، واستكثار أي عطاء يناله غيرهم مع إن الله جلا وعلا قد أفاض عليهم فيض السماحة، ولكن الذي منعهم من قول كلمة الحق هو الحسد والكنود. في ظلال القران لسيد قطب 2/154.
ومن هؤلاء المفكر التونسي محمد حمزة وذلك في كتابه الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، فسعى هذا الرجل جاهدًا إلى تنحية الأصل الثاني من أصول الشريعة، ألا وهو السنة النبوية.
فادعى مصرحًا مرة، وملمحًا مرة أُخرى إلى عدم حجية السنة وذلك من خلال اختفائه وراء عرض لكتابات كتّاب.. أمثال أحمد أمين، ورشيد رضا وبعض المستشرقين، أمثال شاخت وكولد تسيهر وروبسون وغيرهم.. وقد تناول كثيرًا من المواضيع التي لها تلازمٌ شديد مع الحديث النبوي الشريف، وكان من طريقته أن يعرض أقوال علماء أهل السنة والحديث فينبزهم من طرف خفي ويتعرض لأقوالهم وآرائهم بالنقد بصورةٍ لاتستفز الجاهل، بل تؤرق العالم الخبير، ثم يتبعها بعرضٍ لأقوال بعض الكتاب أمثال أحمد أمين ورضا، وأبو رية، ممن لاحظ لهم في العلم غير الكتابة، فنراه يسردها سردًا وهو مقرٌ بما يقولون، ورغم أنه لا يشير إلى ذلك الإقرار إلا أن القارئ يجد ذلك من خلال السياق والسرد.. ثم سار على هذه الطريقة وجعلها منهجيةً لكتابه، وكأنه بذلك يجيّش الجيوش فيقودها من طرفي خفي للهجوم على قلعة الحديث. وقد فعل ذلك ابتداء ًوشكك في بدايات تدوين الحديث النبوي وأنكر اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بهذا العلم الشريف، ثم عرج على عدالة الصحابة فغمز هذا الركن فيهم، وأكثر فيه من أقوال أبو رية، وأحمد أمين، ورضا وعبد الخالق، ليؤكد أنه ليس ثمة فرق في مقام الجرح بين الصحابة رضي الله عنهم وبين من تلاهم من التابعين وتابعي التابعين، بل ادعى أن القائلين من العلماء بهذا المبدأ إنما قالوا به دفعًا لأقوال الخصوم ليس إلا.
وزعم أن القول بمدأ عدالة الصحابة رضي الله عنهم دعوى لم ترد في كتاب الله عز وجل، وليس لها وجود في الواقع الخارجي.. داعمًا هذا الزعم باختلاف أهل العلم حول تعريف الصحابي وبعض المخالفات الشرعية التي ارتكبها بعض الصحابة رضي الله عنهم وتكلم فيها أهل العلم.
وفي سبيل تأكيد مزاعمه تلك نجدهُ يلمز ابتداءً الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه.. بعد أن يصرح برد أحاديثه، ثم يصفه بأقذع الأوصاف، إلى أن يصل إلى القول بأن في صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافقين.
ونجد من خلال قراءتنا لكتاب هذا المفكر الكبير! أن لديه كثير من المشتركات مع الطائفة الشيعية، فهو يدعي كما تدعي الشعية أن الصحابة رضي الله عنهم قد كذبوا على رسول الله في حياته، وأنه قد فشا فيهم الكذب، ويورد بذلك حديثا رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج للطبرسي ولا يوجد في دواوين أهل السنة، وعزا مصدر الحديث لمقالٍ كتبه محمد عبده ونشره في مجلة ثمرات الفنون البيروتية سنة 1886 [1]. ويوافقه في هذا الرأي أحمد أمين وأبو رية.
ويخيل اليك أنك تقراء لكاتب شيعي وأنت تتصفح تلك الشبه حول الحديث والصحابة، بل إننا لا نبعد النجعة إن قلنا إنه يتكلم بلسان حالهم، فهو يقول مثلًا:
والجدير بالذكر أن الحديث عن أول من أسلم هو موضوع أثير بين السنة والشيعة في أوائل العصر الأموي حينما قام الخلاف بين أهل الجماعة والشيعة حول أحقية خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكأن محمد حمزة يعلن أن للشيعة ظهور في تلك الفترة. في حين أن الحقيفة التي عند أهل التحقيق أن الشيعة لم تكتمل أصول دينهم ولم تظهر كتبهم إلا في القرن الرابع الهجري، أما التشيع الذي ظهر اسمه على صفحات الكتاب في أواخر مقتل الخليفة المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه فهو تشيع سياسي، وليس تشيعًا عقديًا، وهو الذي نعني يظهوره في القرن الرابع الهجري.
ويستشهد محمد حمزة بابن أبي الحديد الشيعي في شرحه لنهج البلاغة بقوله بأن معاوية رضي الله عنه قد أغرى قومًا من الصحابة لوضع الحديث في سب علي رضي الله عنه، منهم أبا هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
وبعد ذلك فليس من الغريب أن يساوي محمد حمزة المفكر الكبير، بين أهل السنة، الذين هم الأمة، وبين تلك الطائفة التي لا تكاد تبين علمًا وفهمًا، فتراه يرعد ويزبد وهو يدعى أن بعض الباحثين قد شككوا في شخصية عبد الله بن سبأ، مع العلم إن الذين شككوا في تلك الشخصية هم الشيعة ليس غير، وكأنه بذلك يعدّ كتاب الشيعة من الباحثين الموضوعيين الذين يؤخذ منهم رأي. ويخلط محمد حمزة بين المشروع والموضوع وبين الحقيقية والخرافة ولا أدري هل كان ذلك بقصد أم بجهل.
عندما يقول في صفحة 250:
أما في خصوص الأحاديث التي تتنبأ بظهور المهدي فيرى فيها أيضًا اضطرابًا كبيرًا، فقد اختلف أهل السنة والشيعة في اسمه، فزعمت المصادر السنية أن اسمه أحمد بن عبد الله، وقالت الشيعة إنه محمد بن الحسن العسكري، وادعت الكيسانية أن المهدي هو محمد بن الحنفية. مع أن الفرقه الكيسانية من الفرق السبأية المحسوبة على الشيعة قبل أن تكتمل أركان تأسيس مذهب التشيع في القرن الرابع الهجري.
فمحمد حمزة هنا لم يثنِ على الشيعة ثناء مكشوفًا، لئلا ينكشف عنه الستر، بل يكتفي بتشويه معالم الحق.
مستعرضًا قضايا عدة تثبت عدم حجية السنة وخروجها من نطاق التشريع، فنراه يؤكد في نهاية المطاف من كتابه بأن السنة مصطلح سياسي، لا شرعي، أوجده الفقهاء لأجل إيجاد منظومة تدعم أقوالهم وتصنيفاتهم:
وكأنه يؤيد رأي شاخت وكولد زيهر، ثم يعقب فيمدح نظرية شاخت بقوله:
إن النظرية التي يقدمها لنا شاخت تشكل ركيزة أساسية في فهم التطور الذي مر به الفقه الإسلامي ودور الصراع بين المدارس الفقهية والمحدثين في استحضار سلطة جديدة ممثلة في أحاديث النبي وآثار الصحابة. ص 218.
فهو يرى كما يرى شاخت وكولد تسيهر وبقية المستشرقين أن السنة انما وجدت لحاجة الفقهاء إلى تشريع مقنن لأجل استنباط الأحكام، ولم يكن لها اعتبار حقيقي في القرون الأولى لا في عصر النبي صلى عليه وآله وسلم ولا في عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فيقول: ص 361.
لا مراء في أن السنة احتلت مكانة كبيرة في أصول الفقه، إذ اعتبرت الأصل الثاني فيها بعد كتاب الله، بيد أن هذه المكانة كانت متأخرة عن ظهور الأحكام الإسلامية التي قصد بها تنظيم العلاقات الاجتماعية، فكان تأسيس المنظومة استجابه لحاجة الفقهاء إلى وضع تشريع مقنن يمكن من استنباط أحكام جديدة.
ثم يأتي الرجل بالحالقة التي تحلق الدين والعقل فيوافق أحمد امين بأن الحديث النبوي إنما هو عبارة عن محموعة من الحكم الهندية حين يقول:
لقد تنبه أحمد أمين إلى عامل مهم ساهم في تضخم الأحاديث النبوية، وتتمثل في أن الناس لا يقبلون إلى الكتاب والسنة لذلك لم تكن لاحكام الحلال والحرام قيمة لديهم إذا كانت مؤسسة على مجرد الاجتهاد لا على الحديث، فكان كثير من العلماء يرفض تلك الاجتهادات ويشنع على أصحابها، وكذلك شأن الحكم والمواعظ التي تعود إلى أصول هندية أو فارسية أو إلى شروح من التوراة والإنجيل، فحمل ذلك كثير من الناس إلى أن يصبغوا هذه الاشياء كلها صبغة دينية حتى يقبلوا عليها فوجدوا الحديث هو الباب المفتوح على مصراعيه فدخلوا منه على الناس، فكان من ذلك أن ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع والحكمة الهندية والفلسفة الزردشتية والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية.
ويخلص محمد حمزة المفكر التونسي إلى الطعن في منهج المحدثين بصورة عامة فيثني على محمود أبي رية فيما زعمه من الكشف عما اعترى منهج المحدثين من خلل في تطبيق قواعدهم حين جعلوا روايات أبي هريرة وغيره من الصحابة كابن عباس في حكم المروفوع في حين اعتبروا روايات غير الصحابة في حكم المرسل ص 158.
ويشكك حمزة في اهتمام الأمة بالإسناد ويدعى اتفاق الباحثين على أن علم الإسناد إنما ظهر في القرن الثالث الهجري، فيقول: من المعروف في تاريخ علم الحديث أن حركة جمع الحديث ونقده وتمييز الصحيح من الضعيف والبحث في أحوال الرجال والحكم لهم أو عليهم لم يتم إلا ابتداءً من القرن الثالث للهجرة. ص 261.
ويقول أيضًا: لكن إذا سلمنا مع هؤلاء الباحثين بعناية المسلمين بأسانيد الأحاديث وحرصهم على التثبت… ص 262.
مع إتفاق أهل العلم على أن بداية الاهتمام بعلم الإسناد إنما كان في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وهو معنى قول ابن سيرين رحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة، فلا يؤخذ حديثهم.
إلا أن محمد حمزة يميل إلى رأي شاخت أو على الأقل يشكك في اتفاق أهل العلم باستعراض قول شاخت المستشرق، حيث زعم بأن الفتنة المقصودة في قول محمد بن سيرين هي فتنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان المتوفي سنة 126 أي بفارق 86 عامًا.
والذي يكذب شاخت هذا هو أن محمد بن سيرين قد توفي سنة 110 هجرية لذلك نجد أن شاخت اعتبر أن كلام ابن سيرين موضوع عليه مع استشهاده به.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست