مقاهي “وسط البلد”, تلك الأماكن التي تعج بالصخب و رائحة الدخان و الموسيقى, أجد فيها شعوراً غريباً لم أستطع تفسيره سوى أنه يذكرني بها, يذكرني بكل حدث فيها, أقصد الثورة. لازالت تلك المقاهي بها روح الثورة, حديث الناس فيها مختلف عن أماكن كثيرة, نظراتهم, همساتهم, ضحكاتهم, حتى عامِلو هذه المقاهي أشتم فيهم رائحة الثورة.
في إحدى تلك المقاهي جلست و رفيق لي نتجاذب أطراف الحديث, كان حديثنا كالمعتاد عن أحوال البلد وأفق المستقبل بشكل ساخر, و بينما نحن على حالنا إذ سألته عن “مشروع التخرج” الذي يود أن يعمل عليه, فكلانا طالب علوم سياسية على شفى حفرة من عامنا الرابع والأخير, و كان جوابه أنه يود دراسة “أثر العلاوات على الحراك السياسي في اليابان”. بدا لي سؤالاً غريباً, و لما سألته عن سبب اختياره لمشروع كهذا أجاب أنه يود أن يستريح و ألا يُرهق نفسه بحثاً في آخر سنواته الدراسية لأنه يود أن “ينهيها على خير” ويبحث عن زوجة ليستقر.
بعد جلستنا ذهبت للمنزل ممتعضاً بعض الشيء, ولم أجد بُدا سوى أن أفعل ما أفعله وقتما أشعر بضيق, ألا وهو مشاهدة فيلم “fight club”, دوما شعرت بشئ “ما” تجاه هذا الفيلم يجعلني أخرج من حالة الضيق هذه, و بعد أن انتهى الفيلم وشاهدت كل مقطع منه بعناية فائقة كالعادة, انتابنتي فكرة “ما”, تتعلق بصديقي, بالعلوم السياسية, بالثورة, بالفيلم, و بمارتن هيدجر ذلك الفيلسوف المعقد!
ما انتابني هو سؤال عن عبثية الحياة اليومية التي تمتصُنا, عن منطق التماهي مع الحدث اليومي, عن حالة كثير من الناس في مجتمعي, الحالة التي أقصدها هي حالة من التشبُّـع بنمطق الأشياء و أخذ الواقع كمسلمة لا تُـناقَـش و لا تُـجادَل, فالحياة اليومية هي حياة ذات بعد واحد, نستيقظ لنعمل و نأكل و نتحادث مع معارفنا ثم ننام لنستيقظ..الخ, الأسئلة المطروحة في ذلك النسق اليومي هي من سبيل: متى سأستيقظ؟ متى يبدأ العمل؟ متى نأخذ استراحة؟ ماذا سنأكل؟ هل هاتفـت فلاناً اليوم؟ ما بال فلان؟… الخ. هذه الأسئلة هي أسئلة “الكفاف” من الحياة.
هذه الأسئلة تجعلنا نمضى, تُشعرنا بالراحة لأن الإجابة عنها سهلة, كما أنه في حال واجهتنا مشكلة فيها فهناك دوماً من هو أكثر منا خبرةً لنسأله و ننتفع منه.
المرعب هنا هو التماهي مع تلك الأسئلة, أقصد أن يتشبع المرء بهذا النسق اليومي بما يفرضه من أسئلة لتمتد لكل جزئية من حياته. حينها إذا كان الشخص باحثاً فسؤاله أيضا سيكون نابعاً من نفس النسق اليومي, فهو سيسأل عن أثر العلاوات في اليابان, تأثير الدخل على المشاركة السياسة في انغلترا.. الى آخر تلك الأسئلة.
هذه الأسئلة ليست تافهة كما قد يُفهم من كلامي, و لكنها أسئلة “كفافية” – إذا جاز النسب- أسئلة يومية, يسألها الباحث لا ليُجيب عنها, بل لأنها سهلة و لن تسبب له صداعاً او أي معاناة. فهو سيواجهها كما يواجه سؤال: ما عساه يكون العشاء اليوم؟
ما أرعبني أكثر ليس فقط أن نسقا كهذا سيوَلِّـد أسئلة “كفافية” و حسب, بل ما ارعبني هو أننا – كعرب بل كبشر- في لحظة هامة جدا, لحظة نادرة التكرر من أحداث و صِدامات في كل بقعة من بقاع كوكبنا, إن نسقا كهذا بطبيعة الحال سيكون منقطع الصلة بأي من تلك الأحداث, فهو و إن بدا أنه يسأل عنها و يستجوبها, لكنه في حقيقة الأمر هو يعاملها من منطق يومي بحت, و بالتالي جوابه عنها هو جواب مبتور, جواب لم يعرف طعم “البحث”.
برامج التلفاز ممتلئة بـ”المحللين السياسيين” و “الخبراء الاستراتيجيين” و “دارسي العلوم الاجتماعية”..الخ وهم يواجهون أسئلة حرجة من قبيل “مآل الصراع السوري” “حالة مصر الراهنة” ..الخ, لكنهم على الرغم من حرج السؤال و المكانة العلمية المفترضة فيهم إلا أنهم لا يستطيعون تقديم أي جواب مُرضٍ, بل هي جوابات عجلة, جوابات كفافية.
مارتن هيدجر – الذي لا أدعي أني قارئ له- قدم تحليلاً يمكن أن يفيدنا هنا, إذ هو حاول أن يتساءل عن معنى “العدم” في مقال له تحت عنوان “ما هي الميتافيزيقا؟”[1], دون الدخول في تفاصيل المقال المرهق, يمكننا أن نحدد بعض النقاط التي تتماشى مع حديثنا.
حلل هيدجر شعور الـ ” angst “[2]: إن هذا الشعور هو حالة تصيب الانسان من “الخوف” غير المفهوم, ففي حين أن الخوف العادي هو خوف موجه, أي خوف من شيء موجود و واضح, فإن الخوف الموجود في حالة الآنجست هو خوف كلي غير موجه, فالخوف الاعتيادي هو كخوفي من أن تتم سرقتي, أي خوف “من” شيء بعينه, أما حالة الآنجست فهي خوف دون تحديد لشيئ بعينه. و بسؤال الشخص صاحب شعور الآنجست عن سبب خوفه يجاوب بكل بساطة:” لا شيء” أو “لا أعلم”, هنا يقول هيدجر إن الإنسان وقتها يلتقى لأول مرة بـ”العدم”.
إن شعور الآنجست هو شعور بالإنسحاب التام من كل شيئ, يشعر الإنسان حينها أنه غريب عن كل ما يحيط به, هو ليس شعورا بإنعدام الأشياء, بل هو شعور بأن كل الأشياء أصبحت غير مستقرة و لا يمكن أن يُعوًّل عليها, كل شيئ يصبح لغزاً, و يكتشف الإنسان أنه لا يعرف معنى أي شيئ!
هنا و هنا فقط يؤكد هيدجر أن الإنسان صاحب شعور الآنجست هو من سيمتلك القدرة على التحرر من أسر الحياة اليومية الرتيبة, هنا يمكن للإنسان أن يختار بين أن يُكمل حياته و هو مُدرك أنها غير ذات معنى, أو أن يبدأ في البحث عن معنى.
إن فيلم fight club يتناول ذلك بشكل ما, فإدوارد نورتن هو إنسان اعتيادي, يرتدي لباسا مُهندما, يذهب لعمل ناجح, يمتلك أموالاً كثيرة, لكنه لديه أزمة وجودية, إذ هو لديه حالة مشابهة للآنجست سالف الذكر.
هو يشعر بأن كل شيء يبدو غريباً عنه, يشعر بعزلة بشعة رغم وجود الأشياء, في مشهد في بداية الفيلم يقول نورتن واصفاً حالته: “كل شيء بعيد جداً, كل شيء هو نسخة عن نسخة”, فهذه الحالة مشابهة لحالة الآنجست, هي شعور بأنن كل شيئ موجود لكنه بعيد, و معناه لا يستطيع المرء فهمه.
ثم يظهر تايلور لنورتن الشخص الذي يبدأ في فتح مجال آخر له ليُحقق ذاته, ليجد معنى في هذه الحالة المخيفة, و لكن بعد عدة مشاهد, نجد نورتن قد اكتشف فداحة ما يحدث, يجد أن المعنى الذي يحاول تايلور تقديمه هو معنى كارثي, فلا يجد نورتن بُداً من أن يقدم على الانتحار لتفادي هذا الحل, و هو بذلك يختار أن يوجد وجوداً ثابتا له معنى حتى بعد تحطيم كل شيء.
ما أنقذ نورتن من فكرة “التماهي” سواء مع الحياة اليومية في البداية أو مع الحياة الكارثية في النهاية هو شعور الآنجست, هي الحالة التي تأتي للإنسان لتجعله بعيدا بشكل نسبي عن كل شيء و تمكنه من الإختيار.
إن حالة كهذه هي التي يمكنها كسر نسق الحياة اليومية, هي التي يمكنها أن تُعيد الروعة لكل شء, هي التي يمكننا بها أن نفهم المقولة الصوفية: “كل شيئ معجز, لكنها العادة”. إن حالة كهذه أصابت كثيرا من “جيل الثورة”, بحيث أصبحت الحياة اليومية بالنسبة لهم ثقلا لا يُحتمل, إذ هي خلو من المعنى.
إن شعورا كهذا الذي بدأ يتدفق في كثير من “جيل الثورة” يفتح إمكانيات جديدة للمستقبل, يضعنا أمام مستقبل يمكن أن يكون اعتياديا يقتات على الكفاف و يتسائل عن آثار العلاوات في اليابان, و يمكنه أيضا أن يكون غير اعتيادي بالمرة بحيث يبدأ في التساؤل عن أسئلة جادة قد تغيّر واقعه. و هذه – في نظري- سابقة لم تظهر في العالم العربي منذ وقت طويل.
إن هذه الإمكانيات -في نظري- كافية لتؤكد أن أحداث الربيع العربي – خاصة في مصر- كانت ثورات من نوع جديد, فهي ثورات فتحت آفاقاً للمستقبل لا زالت قيد التنفيذ بالرغم من كل التقييدات و الهزائم التي واجهتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست