تدور في هذه الأثناء أحاديث كثيرة عن المرحلة المقبلة وكيفية التعاطي معها، وتبرز مسألة التوافق كمحور ارتكاز في هذه الأحاديث.

ونرى أنه من المهم أن نوضح بعض النقاط التأسيسية حول هذه المسألة علها تكون حلاً لإشكالات الحوارات الجارية حاليًا.

الثورة والشرعية الدستورية

يرى فريق من القوى المناهضة للنظام الحالي أن الشرعية الدستورية تساوي عودة الرئيس محمد مرسي (الإخوان) بينما يرى الآخرون أنهم لن يقبلوا بحديث الشرعية الدستورية، وأن شرعيتهم تنبع من ثورة يناير فقط (معظم القوى الشبابية).

ونحن نرى أن كلا الفريقين على خطأ، فالشرعية الدستورية تعني بالأساس حق الشعب في اختيار دستوره وممثليه وحاكمه من خلال انتخابات حرة نزيهة، ومن ثم فإن الحديث عن مرسي وكأنه هو الشرعية هو خطأ فادح، كما أن الحديث عن فصلها عن الثورة هو خطأ أكثر فداحة، فالثورة ليست كيانًا منفصلاً عن أهدافها.

وقد قامت الثورة من أجل ثلاثة أهداف كبرى هي:

الحرية (وما يتضمنه ذلك من إقامة نظام ديمقراطي يتقرر فيه حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه من خلال انتخابات حرة نزيهة، وقيم الشفافية والمساءلة، وإقامة دولة القانون… إلخ)،

وعيش/عدالة اجتماعية (وما يتضمنه ذلك من إعادة توزيع دائم وعادل للثروة داخل المجتمع وتساوي فرص أفراده لا يمنعهم في ذلك طبقتهم الاجتماعية والاقتصادية، والسعي الدائم للقضاء على الفقر… إلخ)،

وكرامة إنسانية (وما يعنيه ذلك من مركزية الإنسان في الوطن، وأن الدولة قامت لخدمته لا لكي يتم تعريف الإنسان من خلالها… إلخ).

إن هذه الأهداف جميعًا تضع الشرعية الدستورية في القلب منها كحجر مؤسس لبناء نظام ديمقراطي حقيقي لا يكتفي فقط بشرعية الصندوق، بل يضيف إليها شرعية الإنجاز وشرعية الحقوق والحريات وغيرها، ولكنه بالتأكيد لا يتخلى عن حجر تأسيسه وهو التسليم للصندوق كوسيلة الاختيار الحقيقي والتأسيسي.

ومن ثم فإن الحديث عن ثورة بدون شرعية دستورية أو شرعية دستورية بدون ثورة هو حديث عن هياكل فارغة بدون مضمون، فالثورة وأهدافها كل واحد لا يتجزأ، والتمسك بالثورة دون أهدافها هو أشبه بالتضحية بالجنين والأم والطبيب من أجل أن يعيش الأب، بالرغم من أن الأب هو سبب الحمل وبدونه لن يحدث حمل، إلا أنه أيضًا لا قيمة للأب بدون الأم والجنين والطبيب.

الثورة وخطايا الثوار

إن شرعية الثورة تؤسس لشرعية الثوار، فكل من شارك في الثورة يستمد شرعيته منها، ومن ثم لا يمكن إقصاء أي طرف من أطراف الثورة، مهما بلغت خطاياه تجاه الثورة والوطن وبقية قوى الثورة، وهو مبدأ هام يجب التنبه له .

فالمطالبة بعدم إقصاء الإخوان يعني بالضرورة المطالبة بعدم إقصاء القوى المؤيدة لنظام انقلاب المجتمع المدني 30 يونيو/3 يوليو، فقط إذا كنا نقف على أرضية الثورة وشرعيتها – وهو أمر سنرجع له فيما بعد- ومن ثم فإن الدعوة للتوحد أو التحالف أو التوافق تعني ضمن ما تعني محاولة إيجاد آليات معالجة خطايا الثوار تجاه الثورة وأهدافها.

ولقد تعددت خطايا الثوار تجاه الثورة، فمن ناحية نجد ما قام به الإخوان من تفاهمات مع العسكر في السنة الأولى من الثورة، ثم فشلهم في إدارة المرحلة في عهد مرسي.

بالإضافة لما بين هذا وذاك من غطرسة أوهام القوة والبرجماتية النفعية الشديدة في التعامل مع الواقع السياسي، بما يعنيه هذا من نكثهم بعهودهم السياسية سواء كجماعة أو كرئيس جمهورية، ومزج العمل الدعوي بالعمل السياسي بما يحمله ذلك من مخاطر على الدعوى والسياسة في آن واحد.

ومن ناحية أخرى نجد التصاق القوى العلمانية من أحزاب (المصري الديمقراطي والمصريين الأحرار مثالاً) ونخب (البرادعي وحمدين مثالاً) بالعسكر وتبوئهم للوزارات في حكومات العسكر سواء في عهد طنطاوي أو في عهد السيسي (البرعي، حازم الببلاوي مثالاً في العهدين، حسام عيسى في عهد السيسي مثالاً)، وتحالفهم معهم من أجل إسقاط أول رئيس مدني منتخب، ثم بعدها انكشاف حقيقة إيمانهم بمبادئهم والتي أصبحت أضحوكة في ظل تبريراتهم المتوالية لجرائم السيسي ومذابحه وعصفه بأي حقوق وحريات عامة.

ومن ناحية ثالثة نجد خطايا الثوار من الشباب والقوى الشبابية والذين تعاملوا بمنطق المثالية الثورية مع السياسة، ثم أخذوا يولولون بعد ذلك على عدم وجود من يمثلهم في السلطة، ثم تحالفهم الضمني مع العسكر في مشهد 30 يونيو برغم علم كثير من رموزهم وقياداتهم بما ستؤول إليه الأمور وما كان مخطط له ( بشهاداتهم بعد ذلك، أحمد ماهر مثالاً) وتحذير عدد من رموزهم علنًا (وائل عباس، إسلام لطفي، سامية جاهين مثالاً) .

وذلك كله من أجل إسقاط الإخوان في مشهد من مشاهد طغيان الجانب النفسي على عقل السياسي يستحق أن يدرس في الأكاديميات.

الثورة وتناقضاتها: ما العمل؟

يبدو المشهد الحالي قاتمًا بل ومتناقضًا، فالكثير ممن شارك في انقلاب المجتمع المدني 30 يونيو/ 3 يوليو قد تغير موقفه، ولكنه يأبى – استكبارًا– إلا أن يصر على عدم خطئه في 30 يونيو، والإخوان من ناحية أخرى يأبون – استكبارًا ونوعًا ما مصلحة– أن يعترفوا بأخطائهم في عهد مرسي وغيره، بينما ما يزال فريق كبير من القوى العلمانية متشبثين بذيل النظام ينتظرون منه الفتات الذي سيرميه لهم، حسب تصورهم.

وفي نفس الوقت، وفي ظل تفتت كل هؤلاء من قوى الثورة، يتزايد يومًا بعد يوم استبداد نظام مبارك/ السيسي ويتفرعن ويحكم قبضته بالمزيد من القوانين والإجراءات واللأحكام القمعية، وتتفنن كل قوى الدولة العميقة في إظهار مدى انحطاطها وبذاءتها، بينما تضيع حقوق الشعب وتهدر كرامته يوميًّا بشكل متزايد.

ويتأخر الوطن ويتم تدمير أواصره وهويته بشكل سيحتاج لسنوات طوال حتى نستطيع علاجه.

ومن ثم يطرح السؤال نفسه، ما العمل؟

ونقول – والله أعلم– أن الحل الوحيد هو في حراك/ ثورة جديدة، بشرعية جديدة، بأهداف جديدة، بمشاركين جدد. فالثورة – مع كل إيماننا بها– ليست عجلاً مقدسًا، بل كانت وسيلة لبلوغ مرامينا من وطن حر وقوي، ومواطن كريم، ومجتمع فاعل، أما وقد وصلنا لهذه الحالة، فإننا يجب أن نسعى لحراك جديد، نجدد فيه ثورتنا بما يتفق ووعينا المعاصر وتاريخ ثورتنا المنقلب عليها، ويكمن هذا التجديد في الآتي – كنقطة بداية- :

أولاً: تجديد الشرعية:

فنحن أمام شرعية جديدة، تتحدد بفاعلين جدد وأهداف جديدة، حتى ولو تشابه الفاعلون جزئيًّا مع ثورة يناير، وحتى لو اشتملت أهداف حراكنا الجديد أهداف ثورة يناير، ولكن المنطق الحاكم أنه حراك جديد بشرعية جديدة.

ثانيًا: تجديد الأهداف:

فقد اتضح لدينا أن الحرية بدون إيمان عميق بآليات وقيم الديمقراطية (الإجرائية والتشاركية والتداولية) لن تصمد أمام التحديات، كما أن عيشًا وعدالة اجتماعية لن يتحققا في ظل الاستكانة للنظام العالمي القائم على قهر الدول والشعوب لمصلحة الشركات عابرة القومية وللدول الغنية، وكذلك فإن الكرامة الإنسانية لن تتحقق بمزيد من هيمنة الدولة على المجتمع، وأنه مهما بلغت الدولة من الرقي والتقدم فإن الحامي الوحيد للحريات والحقوق هو مجتمع قوي يتمتع باستقلال حقيقي عن الدولة، بل هو أقوى منها، فيستطيع أن يروضها لمصالحه بدلاً من سحقها له من أجل مصالحها. ولقد اتضح أيضًا أن كل هذا لن يتحقق بغير استقلال وطني، يحمي البلاد والعباد من هيمنة الدول الأخرى غربية كانت أم خليجية.

ثالثًا: تجديد الفاعلين:

إن حراكًا جديدًا يعني فاعلين جدد، فمن سيشارك في الحراك الجديد هو – وهو فقط– من سيمتلك شرعية الحديث باسمه، وهذا ما يعني أن الفاعلين الجدد يجب أن يجدوا آلية للتوافق بينهم، ونحن نرى أن آلية الإعذار بالظلم كافية كبداية لأرضية تشاركية جديدة.

فما حدث في الشباب والقوى الشبابية من تنكيل وقمع وحبس بل وقتل يغفر لهم خطيتهم في تحالفهم الضمني مع العسكر في 30 يونيو، كما أن ما لحق الإخوان من تشويه وتنكيل ومقاتل وقمع ومحاولات استئصال كافٍ لغفران خطاياهم سواء في عهد مرسي أو ما قبله، ولكن كل هذا لا يعني أننا سنغفر الجرائم الجنائية.

فآلية الإعذار بالجهل لا تكتمل سوى بعدالة انتقالية تشمل الجميع – الجميع بلا استثناء– من أجل القصاص لدماء كل من قتل، وهو ما يشمل أول قتيل في سجون مبارك – كمال السنانيري، والذي ما زال قاتله يعيش بيننا متبجحًا – إلى آخر قتيل يسقط في عهد السيسي، شاملاً بذلك قتلى الثورة ومرحلة المجلس العسكري ومرسي.

أما هؤلاء الذين تحالفوا مع نظام مبارك/ السيسي ولم يخرجوا عليه خروجًا صريحًا معلنين خطأ موقفهم وتنصلهم من النظام (وليس فقط استقالة من المنصب وهروب إلى فيينا مثل البرادعي) فإن موقفهم هو العزل السياسي كجزء من نظام سيسقط بحراكنا الجديد وبصراعه الداخلي – بعد مشيئة الله تعالى قبل كل شيء-

إلا أن يقبلوا بما سوف يضعه التفاهم الوطني من آليات لقبول هؤلاء الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب وأفلتوا من أي مسؤوليات أو حتى مضايقة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد