في الأسبوع الماضي أصدرت المحكمة حكمها في قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي وكبار مساعديه بالبراءة للجميع من جميع التهم المنسوبة إليهم، بعد أن اعتبر القاضي أن ما حدث في يناير مؤامرة من قوى خارجية استهدفت زعزعة استقرار البلاد، وأن الهجوم على أقسام الشرطة جاء وفق خطة مدروسة شارك فيها مجموعة من المأجورين والعملاء، وحتى إن القاضي قد أقر في حكمه أشياء كان بعض الناس يعتبر ترديدها نوعًا من الكوميديا السوداء مثل “حروب الجيل الرابع”، مما اعتبره البعض أحكامًا مسيسة، وأنها جاءت تجسيدًا لموقف الدولة الرافض لثورة يناير والمحارب لها.
ولكن في ذات الأسبوع، وفي لقائه مع شباب الإعلاميين، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي رأس النظام الحالي عن الأهمية التي تمثلها ثورة يناير في التاريخ المصري، وامتدحها بشكل علني واصفًا مبارك بأنه قام بتجريف مصر خلال الثلاثين عامًا الماضية، وما زالت مصر تعاني معاناة شديدة من ذلك، وأن الثورة نفسها قد تأخر قيامها كثيرًا، وزاد من الشعر بيتًا بأنه بصدد إصدار قانون يجرم الإساءة لثورة يناير، بجانب ما أسماه ثورة 30 يونيو بطبيعة الحال.
هذا الموقف المتناقض للنظام في نفس الأسبوع جعل البعض يتساءل في حيرة عن الموقف الرسمي للنظام من ثورة يناير، والذي يعتبر قيامها مؤامرة، ويحكم على من قامت ضده بالبراءة، وفي نفس الوقت يقوم بالهجوم علنًا على فساد هذا الرئيس وإصدار قانون يجرم الإساءة لذات الثورة التي يقوم النظام بعمليات تشويه ممنهجة لها في إعلامه العام والخاص.
والحقيقة أن موقف النظام الرسمي الحقيقي من ثورة يناير كفعل يهدف للتغيير الجذري لا يحتاج إلى تنظير. فنظام قام بقتل أكثر من ألف ومائتي نفس في ساعات معدودة، وامتلأت سجونه ومعتقلاته بالآلاف من المعارضين دون محاكمة أو بمحاكمات هزلية صورية، نظام يناصب العداء العلني لشباب الجامعات، ويقوم بشكل روتيني بالاقتحام والقتل والاعتقالات العشوائية بداخل الحرم الجامعي بصورة لم تحدث في تاريخ مصر، هذا النظام لا يحتاج منا لقليل من التفكير قبل أن نقرر موقفه المخزي من ثورة يناير وشعاراتها ومطالبها، بل جاء ليحفظ مصالح الدولة القديمة والعقد الاجتماعي الفاسد الذي قامت عليه.
والحكم ببراءة مبارك يخدم النظام الحالي في نقطتين أساسيتين:
أولهما هو في رمزية هزيمة الثورة والتأكيد على كونها مؤامرة خارجية قام بها مجموعة من الممولين والمأجورين عملاء أمريكا وإسرائيل وقطر وتركيا وبلاد الواق الواق، ممن لا يريدون الخير والاستقرار للبلاد، والظن هنا أنه لا يقصد ثورة يناير في حد ذاتها، وإنما الهدف الرئيس هو وأد أي تحرك في الشارع يمكن أن يحدث ضد النظام الحالي بتشويهه وضربه وترسيخ صورة ذهنية سلبية لهذا التحرك في الوعي الجمعي مهما كانت شعاراتها ومطالبها كنوع من الضربات الاستباقية.
وثانيهما ضمان النظام لاستمرار وجود “فزاعة الإخوان” في المشهد العام، وذلك عن طريق التأكيد على تحميلهم جميع الخطايا والجرائم التي حدثت في الثورة من قتل للمتظاهرين، واقتحام للسجون، وانتشار القناصة على أسطح البنايات، وحتى التخطيط الدقيق لموقعة الجمل بغرض الوقيعة بين الثوار والدولة، ونشر حالة من الفوضى في البلاد، وهو بذلك يبرئ ساحة وزارة الداخلية وقياداتها من ناحية، ويساعد في زيادة تشويه خصومه الأساسيين من جماعة الإخوان من ناحية أخرى.
والأهم من هذا أن النظام الحالي يكتسب شرعية وجوده الأساسية من محاربته لجماعة الإخوان “الإرهابية” التي تنشر الذعر والهلع في ربوع الوطن، على حد زعم النظام في وسائل إعلامه المختلفة. وفي ظل سياسة فاشلة على كل المستويات، وفي ظل استمرار تردي الأوضاع المعيشية يومًا عن يوم مع ارتفاعات قياسية في مستوى البطالة، وانخفاض في مستويات الصحة والتعليم، وزيادة الضغط على الطبقات الفقيرة وتحميلها فاتورة الأزمات الاقتصادية، وغيرها من أسباب وجيهة لانهيار الأنظمة، فلا يجد النظام وسط كل هذا في صراعه على البقاء سوى استمرار إذكاء وتهويل “فزاعة الإخوان” جنبًا إلى جنب مع إذكاء روح الفاشية الوطنية في وسائل إعلامه، مع التأكيد المستمر على أن مجرد وجوده رغم كل الأزمات السابقة واللاحقة هو الضمانة الوحيدة لكي لا تتحول البلاد إلى فوضى عارمة مثل العراق وسوريا.
ومما يزيد من سخرية الأحداث أن تجد أن أكثر الداعمين لهذا المسار الذي يحمي فيه النظام نفسه من الانهيار هم الإخوان أنفسهم، وربما يكون موقفهم الرسمي من تظاهرات واحتجاجات ما سمي بـ”جمعة الهوية” خير مثال على ذلك.
ولكن إن كان الأمر بهذه الصورة فما الذي يدفع نفس هذا النظام للدفاع عن ثورة يناير من جهة أخرى؟
بعد براءة مبارك ارتفعت أصوات المؤيدين له بصورة علنية فجة لم تحدث من قبل في وسائل الإعلام المختلفة منذ قيام الثورة، عبرت عنه فنانة السلطة عفاف شعيب بصورة واضحة حينما قالت: “اللي مالوش خير في مبارك مالوش خير في مصر”، وهلل له إعلاميو السلطة بأن الله قد “أظهر الحق” وعاد مبارك “البطل الشجاع حامي الحمى” لبؤرة الأحداث مرة أخرى، وربما رأى النظام أن مثل هذه النغمة المتصاعدة في زيادة شعبية مبارك لا يمكن أن تأتي إلا على حساب شعبيته هو نفسه.
مما قد سبب له ربكة شديدة ظهرت متجلية لكل متابع للأحداث، وهذا مفهوم جدًّا من نظام يهتز من تصريحات ممثل سينمائي معارض، أو من لقاء فتاة صغيرة تقول أنها لا تحب أغنية “تسلم الأيادي”، فما بالنا من موقفه من ارتفاع غير متوقع لشعبية رئيس سابق وأبنائه بهذه الصورة، وهو الذي يخطط للمكوث الأبدي في السلطة؛ مما قد يعني تهديدًا مباشرًا له بالمستقبل؟
من هنا جاءت هبة النظام على مبارك وتاريخه وشرعيته، ومن هنا وجد النظام أن الوسيلة الوحيدة لحمايته من تلك المعضلة – ويا للسخرية- هي الاستظلال بظل نفس الثورة التي ما فتئ يشوه رموزها وأحادثها، ومن هنا أتت حتمية الحفاظ على شرعية الثورة بقوة القانون وإن أنكرها بقلبه.
للثورة رب يحميها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست