الحياة سلسلة من الأحداث المتكررة، قد تتشابه بدايتها، وتختلف النهايات أو العكس، وقد تكون الحادثة عبرة ودرسًا لمواقف أكثر أهمية وعمقًا.

 كتب أحمد خالد توفيق عن حادث مر به وجده يشبه حال ثورتنا: «عندما كنت طبيبًا فى وحدة ريفية، رأيت حالة فتاة تعرضت يدها لالتهاب شديد فامتلأت بالصديد. كان عليّ أن أشق الجلد وأخرج هذا الصديد. فقمت باستخراج كميات كبيرة فعلا من الصديد جعلتنى أتِيه فخرًا بنفسي. على أن فرحتى لم تدم طويلا.. لقد عادت الفتاة بعد ثلاثة أيام وقد ارتفعت درجة حرارتها بتلك الطريقة المحمومة المجنونة التي تدل على وجود صديد مضغوط، وكانت ترتعش، وأدركت أن التهابًا أقوى كاد يدمر يدها، فأخذتها لجراح بارع، رأى ما قمت به فقال ضاحكًا «المشكلة هي أن قلبك رهيف جدًا ولا تملك الشجاعة اللازمة.. كان عليك أن تفتح أنسجة أكثر وتمزق أكثر وتتوغل أكثر. فالصديد لا يجب التهاون معه. وفى ذهول رحت أراقبه وهو يُولج مبضعه، فيمزق ويخترق أقسام اليد.. ورأيت أنهارًا من الصديد تتدفق. كل هذا كان بالداخل وأنا بقلة خبرتي حسبت أنني، أجدت التنظيف. وعندما ضمد الجرح ووضع الفتيل، كانت حرارة الفتاة قد هبطت فعلا».

نعم يا سادة إنها رهافة قلوبنا في تنظيف قيح الفساد ورومانسية الأحلام التي ﻻ تتناسب أبدًا مع الثورات، إما أن نشق بقسوة وننتزع بقوة رأس القيح أو ننتظر أن يموت الجسد محمومًا.

نحن ارتكبنا حتى الآن نفس خطأ الطبيب المبتدئ، فالنصف ثورة مهلكة لذا أصيب جسد الوطن بحمى أشد وأفتك من سابقتها. فنحن شعوب مفهوم الثورات وثقافتها لدينا غير مكتمل، الثورة في ثقافتنا العربية توقفت عند لغة الخطابة الثائرة التي تحمل القليل من الواقعية والكثير من المفاهيم الخاطئة مثل: أن نجاح الثورة يعتمد على الحنجوريات والشعارات، وليس الاستراتيجية والقائد المحرك.

لذا ولدت ثورتنا بكل العيوب الجينية التي ورثناها، فولدت ضعيفة وبلا رأس فسقطت سريعا. فالثورة مثل كل كائن حي تتكون من:

– رأس: «قائد» يفكر ويضع استراتيجة ويعطي الأوامر بالتحرك للأهداف المنشودة، والبعد عن مواطن الخطر.

– وجسد : «ثوار» ينفذون تلك الأوامر يتحركون ويسيطرون على الأرض.

أسباب فشلنا ترجع للرأس والجسد.

الرأس

تنفرد مصر ربما عن باقي شعوب الأرض بأنها قاتلة ثوارها.. اشتروني يا مسلمين!

ها هو محمد كريم حاكم الإسكندرية الباسل يجلس بطرقات القاهرة مقيدًا يستجدي شعب المحروسة أن يشتروا حياته بعد أن حكم الفرنسيون عليه بالموت جزاء له على مقاومته.

 ولكي يسلبوه البطولة فلا يخرج من الناس من يثور وينتقم له، جعلوا قرار الإعدام بيد المصريين أنفسهم، وهذا هو دأب المحتل، فجعلوا إيقاف الإعدام مرهونًا بدفع غرامة لا يستطيع الرجل دفعها، وأجلسوه بالطرقات يستجدي الناس أن يدفعوا عنه ولكن، تخلى المصريون عن قائدهم فأعدم وقطعت رأسه ليطاف بها ليكون عبرة لمن يقاوم الفرنسيين.

البشتيلي

تمر سنوات ليست بالكثيرة ليخرج قائد آخر هو مصطفى البشتيلي التاجر المرموق الذي أبى عليه دينه وكرامته أن يرى أهله أذلاء، فشارك بثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين وسجن، وخرج ليقود ثورة القاهرة الثانية، حتى أسقطته الخيانة بيد الفرنسيين لكن هذه المرة قرر كليبر قتله بيد المصريين أنفسهم الذين ثار من أجلهم.

وفي مشهد عبثي خرج كليبر على المصريين ليخبرهم أن البشتيلي هو سبب ما لقوه من تنكيل وقتل على يد جنود فرنسا وهم يقمعون الثورة، والغريب أن يصدق المصريون ذاك المنطق الشاذ، ويقرروا معاقبة البشتيلي على قتل واغتصاب الفرنسيين لهم.

فأجلسوه على حمار بالمقلوب وطافوا به بالطرقات ليقذفه الناس بالحجارة، ويبصقون بوجهه، ويسبونه، وبالنهاية انهالوا عليه بالنبابيت ليردوه قتيلًا.

عرابي

ثائر فريد من نوعه فلأول مرة وربما الأخيرة يقود ثورة  «عسكري» أحمد عرابي الضابط الذي ثار بوجه نفوذ الأتراك والشركس، من أجل كرامة ضباط وجنود مصر، فكانت بداية العداء بينه وبين الخديوي الذي اضطر لاحقًا أن يعينه وزيرًا للجهادية، ليثبت جدارته ويصير أمل الناس في التصدي للاحتلال الإنجليزي بعد خيانة الخديوي والارتماء بأحضان إنجلترا.

لم يتخلّ عرابي عن قضيته وصمد أمام تلك الهجمة قدر استطاعته من الإسكندرية إلى كفر الدوار إلى التل الكبير حيث الخيانة الكبرى التي جعلت عرابي يعلن هزيمته.

فتجلت عادة المصريين بالتخلي عن عرابي، فبعد أن كان بطلهم تركوه وحيدًا منبوذًا بيد الإنجليز فلم يدافع عنه سوى محامٍ إنجليزي.

لم يكتف المصريون بما حل بعرابي من نفي وتشريد، فاستخدمهم المحتل كأداة لقتله معنويًا. ومن أمثلة ما فعلوه به، كتب أحمد شوقي عند عودة عرابي من منفاه: صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي.

كما كان الحزب الوطني يدفع شبابه المتحمسين إلى الذهاب إلى المقاهي التي يجلس عليها عرابي بعد عودته من منفاه، ليقوموا برشقه بالطماطم والبيض وينهالوا عليه بالشتائم والاتهامات محملين عرابي مسؤولية الاحتلال الإنجليزي.

ليموت عرابي بعد ذلك مقهورًا دون أن يلقى حقه من الإنصاف.

الجسد

لو عدنا بالتاريخ سنجد أننا قد سقطنا في كل أخطاء الثورات السابقة.

فالخطأ الذي ارتكبته الثورة الفرنسية، وأدى إلى تعرض الثوار لحملات التشويه التي قادتها الثورة المضادة بقيادة الملك لويس السادس عشر، بمساعدة النبلاء الذين غدروا بالثوار والثورة أكثر من مرة، هي نفس خطأ ثوار يناير.

فخطيئة الثوار الفرنسيين في نظر الكثير من المؤرخين أنهم تركوا ميدان الباستيل، وانشغلوا بالاتهامات المتبادلة بينهم بالتشويه والتخوين، حتى وصلوا لمرحلة الصراع الدموي الذي انتهى بإعدام بعض رموز الثورة وعلمائها في نفس الميدان الذي ثاروا فيه على الملك.

نعم فالتاريخ يخبرنا أن خسارة الميدان تعني ضياع الثورة أمام أعدائها.

وأن انقسام الصوت الواحد الذي يعبر عن تماسك القوى الثورية في أهدافها هو ما يحفظ مكتسبات الثورة أمام أعدائها.

 فبعد ما عاناه الشعب المصري تحت حكم العسكر منذ انقلاب يولو 1952 من جهل وفقر ومرض، جاءت ثورة يناير 2011 التي استبشر الكل بها وظنوا أنها مكافأة الله لهم على السنين العجاف، تركنا الميدان المكسب الأول والأهم لكل الثورات، وتقاتلنا وخونا بعضنا.

لم يدرك الثوار أن ثورتهم التي لم يكن لها قائد، كانت بحاجة ضرورية إلى داعم يقويها حتى يصنعوا لها رأس تدير شؤونها.

هذا الداعم الجوهري هو السيطرة على القوى الناعمة للأجهزة الأيديولوجية والدعائية للدولة، للحفاظ على بقاء الجو الثوري الذي كان من متطلبات المرحلة، فالسيطرة على الإعلام كانت تعني ضمان خطاب إعلامي يراقب تحقق أهداف الثورة.

ظل الإعلام بعيدًا عن سلطة القوى الثورية، فكان السلاح الذي استخدمته الثورة المضادة وأحكمت السيطرة عليه منذ بداية الثورة، فأجاد دوره بسياسة التفريق، مما سمح للمجلس العسكري أن يمارس دورًا كبيرًا في إفشال المسار الديموقراطي بعد ذلك والسيطرة على الأمر لحين ترتيب أوراقه والقيام بالانقلاب.

وبعد الانقلاب قام الإعلام بشيطنة كل الثوار والرافضين لسياسة العسكر فجعل منهم رأس فتنة مثل كريم والبشتيلي وعرابي يتم تصفيتهم وتشويههم وتحميلهم وزر ما وصل له حال البلاد من تدنٍ وانهيار، وحال العباد من فقر وجوع ومرض، وما زال البعض من الشعب يؤمن بمنطق المحتلين فلولا من ثاروا ما تعرضنا للبلاء.

ما زالت لدينا الفرصة كي ننجوا، ما زال أمامنا الوقت لعمل الجراحة العميقة لاستخراج رأس القيح وإنقاذ الجسد المنهك من الموت المحقق فهل نحن فاعلون؟ هل ستجد الثورة بعد كل هذه السنين من يشتريها؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد