كنا قد خلصنا في المقال السابق (ليست ثورة بل حالة ثورية – مصر نموذجا عن ضرورة تحول الحالة الثورية العربية لثورة عربية واحدة لديها شروطها وتنظيمها الحامي والموجه لها، وكنا قد أشرنا إلى أن التنظيم الثوري وهو الحلقة المفقودة للانتقال من الحالة الثورية للثورة الكاملة، يجب أن يكون له نظرية يؤمن بها للتغيير ويعمل على تمكينها واعتمادها وسيلة لتغيير الواقع، وفي هذا المقال نسعى لتوضيح ماهية تلك النظرية.

إن أي ثورة تعني تغيير الواقع بكل ما يحتويه لواقع آخر تماما، فالواقع الحالي غير قابل للإصلاح وهو واقع مشوه لم ينتج كنتيجة طبيعية لحركة تدافع المجتمع بل هو ناتج عن عملية إفساد وإعاقة مستمرة لتطور الحالة المجتمعية، وهذا الواقع المشوه إما نتيجة لعوامل داخلية كالاستبداد والفساد أو خارجية كالاستعمار المباشر أو غير المباشر أو كليهما، وليس الفقر أو قلة الموارد أحد تلك الأسباب فالفقر ليس سببا للتخلف فبالإرادة الحرة المستقلة يمكن التغلب على قلة الموارد واستخدامها بصورة غاية في الكفاءة كما حدث في اليابان مثلا.

هكذا يكون دور نظرية الثورة، توضيح المشكلات التي يعاني منها المجتمع وتوضيح منهج التعامل معها وحلها، وفي المنطقة العربية هناك أربع مشكلات رئيسية على تلك النظرية أن تتعامل معها كي يستطيع التنظيم الثوري الحامل لها أن يكون قادرًا على الانتقال من الحالة الثورية للثورة الكاملة.

1- مشكلة التجزئة – الواقع المشوه

إن أخطر ما نعانيه الآن هو التجزئة، ليس فقط فيما هو مادي ولكن أيضا في ما هو متعلق بالوعي والإدراك، فالأمة الواحدة ذات الواقع الواحد والشعب الواحد والأرض الواحدة لم تعد كذلك، فهي الآن عدة دول وعدة شعوب يفصل بينها مجموعة من الأسلاك الشائكة تقصر انتماء كل فرد لما هو داخل تلك الحدود وتمنع تجاوزه، هذه الأسلاك والحدود لم تكن يوما باختيار أبناء هذه الأمة بل كانت بيد المستعمر الخارجي، إن اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي وضعت الإطار العملي لميراث دولة الخلافة العثمانية بعد سقوطها بتوضيح مناطق النفوذ لكل من المستعمر الإنجليزي والفرنسي في المنطقة العربية.

هذه الاتفاقية قد شكلت واقعا جديدا في المنطقة العربية، قوامه الأساسي هو الحدود والأسلاك الشائكة، كل جزء محدد بذاته لا علاقة له بالجزء الآخر، فمن الممكن أن تنعم بكل الخيرات الزائدة عن حاجتك بينما على بعد أمتار قليلة هناك مجاعة تامة فقط يفصل بينكم ذاك السلك الشائك، كما أن الثروات التي وضعها الله في تلك المنطقة هي لكل أبنائها ليست لجزء دون جزء مما أدي لزيادة الفجوات الاقتصادية بين أفراد لهم نفس اللغة والعرق والدين والأرض، فقط بينهم أسلاك شائكة وجندي مسلح يحميها، لم تكن تلك المشكلة سببها فقط المستعمر بل كانت أيضا مشكلة من سار على نهجه وارتضى تلك الحدود كي يصير لديه دولة يحكمها وجيش يقوده في صورة دولة قطرية، هذه الحالة أنتجت واقعا مجزأ مشوه، وأنتجت أيضا أبناءً لهذا الواقع قد اقتصر تفكيرهم على تلك الصورة ولا يدرك غيرها حتى أن محاولاته للتغيير كانت نابعة من نفس ذلك الواقع الفاسد فأنتجت حلولا فاسدة لم تغير من الوضع شيئا.

إن كل حل يسير على نفس خريطة التجزئة الحالية يصير أيضا حلا مشوها. إن أخطر ما حدث في ثورات الربيع العربي هي أنها هدمت نموذج التجزئة الذي حرص الجميع على حمايته فالحالة الثورية تنتقل من تونس لمصر لليبيا لليمن لسوريا وفي كل خطوة يتم تحطيم تلك الأسلاك الشائكة، وبالتالي كان أول رد فعل للمنظومة العالمية هي التدخل بشكل مباشر أو عن طريق وكلائها لإنهاء حالة التواصل بين الثورات العربية التي كانت ستجعل بالضرورة خط مصر ليبيا تونس خطا واحدا محررا مشتركا ليس فقط في الحاضر بل والأهم في المستقبل.

إن أول نقطة يجب أن يعيها ذلك التنظيم الثوري أن تلك الحدود وهم غرس في أذهان الناس ودافع عنه كل الفاسدين والمنتفعين من تلك الحالة وبالتالي فالسير على خريطة التجزئة بممحاة على المستوى المادي والمعنوي سيكون جزءا أصيلا من نظريته الثورية.

2- مشكلة التغريب – ضياع الهوية

مما نتج عن مشكلة التجزئة السابقة هو ضياع الهوية، و الدخول في متاهات لا تنتهي وإشكاليات مفتعلة في مسألة الانتماء، وهل يعلو الانتماء القطري على القومي أم الانتماء العقائدي يعلو على القومي والقطري أم أن هناك انتماء يطمس ويمحو البقية، وهل هناك عداء بين انتماء وآخر. الحقيقة أن هذه الإشكاليات ليست طبيعية بمعنى أنها ليست وليدة طبيعية لتطور العقل الجمعي في المنطقة العربية، وظهورها بشكل واضح مرتبط ببدء الحملات الاستعمارية على المنطقة العربية وبقية العالم الإسلامي وكذلك ضعف دولة الخلافة.

إن مفهوم الأمة العربية لا يمكن الحديث عنه بفصله عن سبب نشأته وتكوينه بصورته الحالية، فالإسلام ودولة الخلافة الإسلامية هي سبب تكون الأمة العربية وعقيدة الإسلام هي التي صبغت الصورة العامة لثقافة وحياة المجتمع في تلك المنطقة، كما أن الشريعة الإسلامية ونظامها الحاكم في القضاء وتنظيم أمور الناس هو الذي ساد وهو الذي صهر كل قبائل وشعوب المنطقة في بوتقة واحدة.

كما أن الإسلام لا يمحو أي هوية أو عرق ولكن أيضا لا يسمح بالعودة للجاهلية الأولى حيث العصبية المنتنة، فكانت الصورة السائدة هي توظيف كل إمكانيات المجتمع للارتقاء به وجعل التدافع بين الناس بمختلف شعوبهم وقبائلهم وأجناسهم هو وسيلة التطور، إن حملات التغريب التي صاحبت الاستعمار وكذلك المفكرين التغريبين الذين سعو لاستيراد حلول من الخارج كنتيجة لحالة الانسحاق الحضاري والتجزئة التي مرت بها الأمة، لم يفكروا في إنتاج حلول من واقع الأمة وطبيعتها بل استوردوا حلولا من الخارج لمشكلات ليس لها أصل في العالم العربي والإسلامي كالتعارض بين العروبة والإسلام أو إعلاء ما هو قومي على الإسلام بل إعلاء الانتماء القطري تحت مسمى الوطنية على أي انتماء آخر، كما استوردوا العلمانية لمشكلة لا أصل لها في العالم الاسلامي لمجرد وجودها كحل لمشكلة في الغرب.

 

أدت هذه الحلول المستوردة لمزيد من التفتيت والتجزئة في العالم العربي والإسلامي وكانت المحصلة النهائية ليست فقط استعمارا مباشرا بل أيضا استعمارا فكريا.

إن أوضح صورة للانسحاق الحضاري هي نموذج أتاتورك الذي جعل من شعبه في لحظة واحدة أميا لا يعرف القراءة والكتابة باستيراده الحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية أملا أن يجعل هذا بلده متطورا وعصريا فكانت النتيجة مزيد من التخلف والرجوع للخلف. إن مهمة التنظيم الثوري هي التأكيد على الهوية العربية الاسلامية الجامعة لكل الأفراد، فلا مزيد من التغريب واستيراد لحلول من الخارج، نعم كل التجارب جديرة بالدراسة، ولكن حلول مشكلاتنا يجب أن تنبع من ظروفنا وتجاربنا التي نشأنا بها.

3- مشكلة العدالة الاجتماعية

لا يوجد تيار سياسي أو فكري لا يتحدث عن قضية العدالة الاجتماعية، حتى أن الشعارات في الحالات الثورية في الربيع العربي لم تخل من كلمة العدالة الاجتماعية، لكن المحصلة النهائية أن الأغنياء ازدادوا غنى والفقراء ازدادوا فقرا، العدالة الاجتماعية تعني التوزيع العادل للثروات المبني على نقطتين الأولى أن كل مال له أصل وهو العمل الشريف وأن اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع هي أولى خطوات انهياره.

لقد ظل رجال الإعمال حيث المزج بين الثروة والسلطة تماما كما هم لم يمسسهم أي تغيير سواء قبل 25 يناير أو بعدها أثناء المجلس العسكري أو أثناء فترة حكم الرئيس محمد مرسي وحتى الآن، مما يؤكد أن الطبقة الحاكمة ليست فقط العسكر أو فلول النظام السابق بل أيضا رجال الأعمال.

إن المواطن العادي الذي لم يلمس أي تغيير اجتماعي منذ الثورة وحتى الآن كان طبيعيا أن يأخذ إما موقفا سلبيا أو محايدا تجاه أي تغيير لا يصيبه في شيء.

 

أي نظرية ثورية تتحدث عن العدالة الاجتماعية وتتحدث عن التوزيع العادل للثروات وتقليل الفجوات بين طبقات المجتمع دون البحث في أصل ثروات محتكريها من رجال الأعمال ونزع ما لا أصل له هي نظرية منقوصة تعيش في وهم الإصلاح.

4- الجماهير – الوعي

كل ما سبق لا يمكن أن يظل نخبويا، مقصورا على فئة محددة بعينها، تترفع بعلمها عن الجمهور المحيط بها، فالجماهير يجب أن يتم تثوير وعيها وأن تنتقل تلك النظرية من حالة الطليعة الثورية إلى الحالة الشعبية.

فالعمل على حل مشكلات الجماهير دون تثوير وعيها ورفع مستواه الفكري بما يجعلهم طرفا فاعلا في حالة الثورة نقطة أساسية من دونها ستظل الجماهير في خانة المتفرج وأحيانا في خانة الثورة المضادة طالما لا يدرك أبعاد المعركة بشكل صحيح ولا يرى أي تغيير لصالحه. أي نظرية ثورية نخبوية لا تتعرض للجماهير وتشركهم في المعركة الثورية هي نظرية فاشلة تحكم ببقاء الثورة في إطار ضيق مصيره في النهاية الجفاف.

ما سبق عرضه هو أهم أركان النظرية الثورية المطلوب حملها من أي تنظيم ثوري والتي بها يستطيع أن يكون حاميا للثورة محافظا على بوصلتها .

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد