عندما تسقط الأقنعة وتنسدل الستائر عن تلك النجوم الزاهرة، وتنطفئ أضواء الشهرة، من الذين كان لهم المكانة في نفوس الناس، حينها يشعر المجتمع بوعكة نفسية، فيحاول البحث عن قيادة تُعيد له روح الثقة، فيبحث عن نجومية جاهزة، يعوض بها ذلك الشعور الذي خيم على أرجائه عقب سقوط القيادات، فإذا ما وجد شخصًا له نجم ساطع في سماء الشهرة والمجد يتبنى بعض أفكاره التف حوله وتشبث به، وهذا الأمر نجده في التيارات الجماهيرية المختلفة فيما بينها، فعندما تنعدم القيادة ويكون التيار عقيمًا لكي يقدم قيادة فعالة نابعة من جذوره، يبحث عن نجم جاهز يروج لأفكاره من خلاله.

وهذا واضح في التيار الإسلامي عندما يحاول بعض الذين لهم هالة إعلامية رنانة في سماء الشهرة يتبنى بعض أفكاره، فإنه يعد ذلك فتحًا مبينًا، بل يعد ذلك نصرًا على غريمه العلماني وحليفه في الصراع المجتمعي القائم، ثم ما يلبث حتى يعود النجم الباهر إلى أفكاره القديمة، تاركًا أفكاره الجديدة خلف ظهره، بعدما تأكد من أنها لا تحقق له مكاسب كان يسعى إليها، وعندها يشعر التيار بهزيمة نفسية، ويشعر غريمه التقليدي بنشوة النصر، ويحاول هو الآخر أن يلتف حول هذا النجم ليعيد القصة نفسها التي ابتدأها خصمه، وهكذا.

وفي الحقيقة ما نجوم السينما والشخصيات الإعلامية إلا علامة تجارية يحاول بعضهم استخدامها لترويج الأفكار والأيديولوجيات المختلفة، «النجم سلعة كلية: فما من سنتيمتر في جسده وما من ذؤابة في روحه، وما من ذكرى في حياته، عاجزة من أن تكون سلعة ترمى في السوق»[1].

حينما يشعر المجتمع بفقد القيادة التي يلتف حولها، ويريد أن يصنع مجدًا وحلمًا طالما حدثته به نفسه عشيةً وضحاها، فإنه يثور، ولكنه يقف عاجزًا محبطًا عن إكمال ثورته لعدم وجود قيادة في تلك الفترة الحرجة.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تنجح الثورة بلا قيادة؟!

لا شك أن العامل النفسي للمجتمع هو حجر الزاوية الذي يحدد سلوكه في هذه المعادلة، وعدم الثقة والهزيمة النفسية هي أكبر معضلة، وهي أصل الانحدار الذي يعشيه المجتمع.

فكان ولا بد أن تُعتمد صيغة جديدة للسياسة، فالصيغ القديمة أخفقت إخفاقًا شنيعًا؛ فالاعتماد على قائد أوحد يمثل جماهير الشعب يستطيع أن يحقق أحلامها بالديمقراطية ضرب من الخيال!

فالناس هم أفضل من يقفون على واقع ظروفهم، يجب أن يكون القرار لهم، يستحيل على نخبة معزولة – قهرًا أو هوى– ولاسيما نخبة غير منتجة، أن تعرف واقع المواطنين.

فأفكار الثورة بلا قيادة تدور حول عدة أفكار [2]

الفكرة الأولي: في أن من شأن تحرك فرد واحد أو جماعة صغيرة، في نظام متزايد الترابط، مثل العالم المنبثق في القرن الواحد والعشرين، أن يؤثر في مجمل النظام بسرعة فائقة. تصوروا العالم ملعبًا رياضيًّا، حيث يمكن لشخص واحد أن يطلق كرة لا تلبث أن تجر خلفها الحشد كله.

أولئك الأقوى هم بجانبنا، ونحن – بدورنا- في أفضل وضع يمكننا من التأثير فيهم . فتحرك واحد صادر عن إيمان ومكرر من قبل آخرين يصبح تغييرًا ماديًّا دراميًّا مثيرّا، وهكذا التاريخ يقرر لنا أن جل الإصلاحات المجتمعية بدأت شرارتها من جماعات صغيرة، بل حتى من أفراد، فما لبثت هذه الشرارة حتى عمت أرجاء المجتمع والدول، فدعوات الأنبياء والمصلحين على مر العصور بدأت بأفراد وانتهت بمجتمعات حملت هذه الرسالة إلى العالم، والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس هؤلاء قادة وقدوة التف الناس حولهم؟ فما علاقة هذا الكلام بالثورة بلا قيادات؟!

لا شك أن هؤلاء قادة وقدوة؛ فهم خير الخلق، ولكن الرسالة التي جاءوا بها كانت تحث المجتمع كله على أن يكون هو القدوة وهو القائد، وهذا شيء أصيل في الرسالة المحمدية التي جاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهذا المبدأ الذي دعت له هذه الرسالة الغراء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد ربط هذا المفهوم ارتباطَا وثيقًا بالمجتمع حتى صار شعارًا له وعلامةً عليه «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» [آل عمران 110]

فانظر كيف ربطت الخيرية المجتمعية بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا المبدأ حاول كثير من النخب الثقافية تشويهه على مر العصور بكل الطرق والوسائل المختلفة، حتى أصبح الناس يخفون على مسامعهم منه ويفرون من الكلام عنه؛ خوفًا من أن تلاحقهم الأنظمة الفاسدة التي شوهت هذا المبدأ العظيم.

فالأمر بالمعروف هو أمر بكل ما أمر الله به، أو أمر به نبيه – صلى الله عليه وسلم- وأن أعظم ما أمر الله به في كتابه هو إقامة العدل في كافة النواحي وفي كل المجالات «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [النحل: 90]

فالعدل والإحسان هما أصل هذا الأمر الإلهي، فالعدل هو الواجب الذي يجب وقوعه في كل وقت وتحت أي ظرفٍ، والإحسان هو الفضل والزيادة على هذا الواجب، فتخيل لو أن المجتمع والأمة أخذت بهذا المبدأ، وحاولت تطبيقه في كافة النواحي والمجالات، وأصبح هذا الأمر جزءًا لا يتجزأ من عقيدتها، وكانت هي الرقيبة على أعمالها، هل سيكون هناك بعد ذلك مجال لفاسد أو ظالم؟

وإن النهي عن المنكر من أعظم الأمور التي تضمن للمجتمع سلامته وسعادته، وهو نهي عن كل ما نهى عنه الله ونهى عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم- وأعظم ما نهى عنه الله ورسوله الفحشاء والبغي والظلم «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون» [الأعراف: 33]

فانظر إلى أعظم ما نهت عنه هذه الشريعة الغراء، وهو البغي والظلم، فكيف لو استعادت الأمة ريادتها وحاولت تطبيق مبادئها، وأصبحت في المرتبة الأولى الراعية لهذا المبدأ العظيم، مستمدة ذلك من خيريتها التي اتسمت بها، هل يبقى مكان لظالم أو فاسد؟

وانظر إلى الصديق حينما رأى هذا المفهوم يختل في نفوس الناس قال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»[3].

وهو يؤكد على مشروعية هذا الأصل العظيم في الأمة كلها.

الفكرة الثانية: إن الأفعال، لا الأقوال، هي المقنعة؛ فالدراسات الحديثة تسلط الضوء الآن على ما نجح المخرجون المسرحيون الناجحون في إبرازه دائمًا: لا تروا أفعال الأقرب منا – لا خطط الحكومة أو حتى آراء الخبراء- هي الأقوى تأثيرًا. هذا يعني أن من غير المحتمل لالتماسات الإنترنت أن تحدث تغييرًا أساسيًّا، وإن تمكنت ربما من طمأنة المعنى بعض الشيء (لعل ذلك هو الهدف الفعلي) كذلك، من شأن وسائل التواصل الاجتماعي أن تنظم وتثقف جماعات أكبر بطرق غير مسبوقة، غير أن هذا التنظيم يبقى عديم القيمة، ما لم يوظف لخدمة هدف محدد، لممارسة فعل معين.

لا شك في الدور الفعلي الذي تلعبه وسائل التواصل بقضايا مهمة، بل كان لها الفضل في كثير من الأحيان في جعل بعض القضايا قضية رأي عام، إلا أننا الآن أمام قضية نفسية فعلتها وسائل التواصل، حتى كادت تكون من أكثر الوسائل سكينًا لقضية الثورة المجتمعية، فوسائل التواصل لا تعطي لنا حجمًا صحيحًا عن الكتلة المجتمعية التي يخلقها الميدان، فهي مجرد أقوال لا أفعال، حتى المستوى الشخصي للأفراد، ترى كثيرًا منهم يتكلم على وسائل التواصل بكلام وواقعه يشهد بخلافه، وهذا يجرنا إلى الحديث عن مرض نفسي خطير لا مجال الآن للحديث عنه الآن، فإدراة الانطباع التي تفرضها وسائل التواصل لا تصنع ثورة بمفردها، فلا بد من خروج الأقوال من حيز التنظير إلى حيز الأفعال.

الفكرة الثالثة: بالترابط والنقاش. من جديد، هي فكرة بسيطة: صنع القرار يكون أفضل حين يشمل الناس الأكثر تأثرًا؛ ففي الأنموذج الغربي للديمقراطية التمثيلية، بتنا مدمنين على فكرة أن سياسيين منتخبين من قبلنا، يجب أن يتولوا التفاوض بين جملة من المصالح المتنافسة، وصولًا إلى عقد المساومات الضرورية لإنتاج الإجماع والخطة.

الفكرة الرابعة: الوكالة، سلطة حسم الأمور بأنفسنا، لقد فقدنا الوكالة، وعلينا أن نستعيدها، أصبحنا شديدي الانفصال عن القرارات الأكثر أهمية بالنسبة لنا، بتنا متفرقين مغتربين بما في ذلك بعضنا عن بعض. أسهم هذا في ترسيخ السأم إزاء الحياة الحديثة: لماذا كل هذا؟ أين هو المعنى؟ ما المغزى؟ ومن أجل تجاوز هذه الأزمة، التي هي أزمة شخصية من ناحية، وسياسية من ناحية ثانية، لا بد من توافر شيء أساسي[4].

إذا استرجعنا الوكالة، واقتربنا أكثر من إرادة شؤوننا بأنفسنا، فإن شيئًا آخر قد يحصل أيضًا: قد نحصل على نوع من الإنجاز والإشباع، بل ربما حتى على نوع المعنى، الذي كثيرًا ما يبدو مراوغًا في الظرف المعاصر.

وهذا من أعظم الأمور التي يجب على المجتمع فهمها والمطالبة بها، فالسطلة السياسة ما هي إلا وكيل للأمة والمجتمع لتصريف شؤونه والقيام على مصالحه، فإذا أخلت السلطة السياسية بأهم وظائفها المنوطة بها، من إقامة العدل، ودفع الظلم، حينها تسحب الأمة الوكالة وتسعيدها من أيدي الطغاة المجرمين.

فإذا خرج الحاكم على الأمة بفسقه وجوره انعزل، كما قال الإمام الشافعي، «إن الإمام ينعزل بالفسق والجور، وكذا كل قاقي وأمير)[5].

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد