غامضةٌ هي تلك الكلمة «ثورة»؛ فهي تُوحي أحيانًا بمعنى «التغيير» أي تغيير، وتوحي في أحيانٍ أخرى بـ«التغيير المفاجئ أو اللافت للنظر»، إلا أنها في كثيرٍ من الأحيان قد تذهب لأبعد من ذلك.

و«ثورة» تعني في اللغة: التمرد على الظلم، والتغيير الأساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية الذي يقوم به الشعب في دولةٍ ما.[1] وفي الكتابة التاريخية، فقد أُطلقت تسمية على عدد كبير من الظواهر المختلفة في شدتها والتي تمتد من أي تحركٍ مسلح أو غير مسلح ضد نظامٍ ما، إلى التحركات التي تطرح إسقاط النظام واستبداله؛ وهو الأمر الذي يُصعب عملية تدقيق المصطلح.[2]

بالنسبة لـ«هيجل Hegel»؛ فيرى أن الثورة حركة تتسم برفض وإنكار الوضع القائم، وأنها إعادة لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني.[3] أما «كرين برينتون Crane Brinton» فقد عرَّفها على أنها عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى آخر، وأنها تغيير عنيف في الحكومة القائمة بشكل يتجاوز الحد القانوني.[4]

وفي الفكر الكلاسيكي، تعني الثورة: تغيير جوهري في الأوضاع السياسية والاجتماعية لدولة معينة، لا تُتّبع في إحداثه الوسائل المقررة لذلك في النظام الدستوري لتلك الدولة. وهناك خمسة عوامل تؤدي إلى تنامي القدرة السياسية وتطورها إلى ثورة، وهي: تنمية داخلية مُعتمدة على أطراف خارجية، دولة قمعية إقصائية شخصانية، تنامي ثقافات مقاومة النظام ومعارضته، أزمة اقتصادية متنامية، ثغرة في السياسة الدولية تؤدي إلى ضعف مؤقت في السيطرة الخارجية يسمح باندلاع ثورة دون قدرة القوى العالمية على التدخل المباشر.[5]

ثقافة! ثغرة!

نعم؛ ربما هنا كمنت مشكلتنا بالأساس أثناء وبعد الثورة.

تلك الثقافة المقاومة التي لم تكن قد نضجت بعد بالقدر الكافي على مواجهة الظلم مهما بلغت درجة بطش أصحابه.

وتلك الثغرة التي أغفلنا كيف سيتعامل معها النظام الدولي عندما يدركها وبعدما يفيق من الصدمة.

وفي خضم الأحداث التي ترافقت مع تلك الفترة أهملنا محاولة فهم الثورة في إطارها المحلي والدولي، وما قد تُقابله من عراقيل.

ما معنى هذا الكلام؟!

حتى نستطيع فهم تلك العراقيل؛ دعونا نلقي الضوء على فهم أصحاب المدرسة الواقعية -التي سيطرت على العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة- للثورة في إطار البيئة الدولية، فقد حاولوا في هذا الإطار فهم العلاقة بين الدولة الثورية وباقي أعضاء المجتمع الدولي لتفسير سبب دفع الثورة كلا الجانبين لتفضيل استخدام القوة. وكانت إحدى النظريات التي قدموها لتفسير ذلك هي نظرية توازن القوى.[6]

ويرى أصحابها أن الدول فواعل راشدة تسعى إلى البقاء، لأنه لا توجد سلطة مركزية سيادية تقوم على حمايتها، فالسياسات الدولية قائمة على نظام الحماية الذاتية الذي يعتبر الأمن هدفه الأعلى. وتسعى الدول لزيادة قوتها النسبية دون أن تستثير الآخرين بالشكل الذي يجعل وضعها في ميزان القوى أسوأ، سواء تم ذلك بزيادة قوتها أو إضعاف قوة الآخرين، ومن ثمَّ تنشب الحرب بين الدول عندما تُقدم على استغلال حالات عدم توازن القوى لتحسين مواقفها الدولية أو بسبب حسابات خاطئة بأن توازن القوى في صالحها.

هذه الرؤية تجعل الثورة مُسببة للعنف بإحدى طريقتين: إما أن تنتج الثورة فرصًا جديدة للدول لزيادة قدراتها فتغير من حالة توازن القوى بشكل يغريها لاستغلال هذه الفرصة في الهجوم على دول أخرى، أو العكس بأن تُضعفها الثورة بشكل يدعو الآخرين للهجوم عليها. ومن ثمَّ فالثورات -من وجهة النظر الواقعية- هي تصدُّع وانهيار لعالمٍ كان منظمًا.

كل هذا؛ بجانب عدم نضج ثقافة المقاومة في الداخل؛ قد يفسر الدعم الدولي للانقلاب في مصر، وسيناريو مقتل القذافي والتدخل الدولي في ليبيا، وعاصفة الحزم في اليمن، وربما تراجع حزب النهضة في تونس. إلا أنه؛ لا ينبغي على القوى الثورية الوطنية في أيٍ من تلك الدول التراجع والانشغال بالوضع الدولي على حساب الحالة الثورية الداخلية، ذلك لأن واقع النظام الدولي غير منفصل عن الواقع الداخلي للدول الأعضاء فيه، ناهيك عن كونه لم يكن يومًا مستقرًا بالشكل الذي يضمن بقاء موازين القوى على حالها.

لذا؛ وجب على تلك القوى الثورية العمل المستمر على إنضاج ثقافة المقاومة داخل المجتمع، والتي تحفزها العوامل الأخرى التي تدعم قيام الثورة والتي تتنامى في المجتمع دون تدخل من القوى الثورية وإنما بفعل النظام القائم نفس، وهي –كما ذكرنا- التنمية الداخلية المُعتمدة على أطراف خارجية، الدولة القمعية، الأزمة الاقتصادية المتنامية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد