بعد الحرب العالمية الثانية كتب فرانسو فوريه مقالًا بعنوان «تيه المثقفين بعد الحرب العالمية الثانية»، وكتب أيضًا مالك بن نبي بعد انتهاء ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي «تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة الجزائرية».
وبدأت ثورات العالم العربي تدريجيًا، أو كما تسمى بالربيع العربي، بإسقاط رؤوس النظام الظالم المتعالي، والذي لم يسلم منه مسلم تقي، فشرّع الأنظمة القهرية، وسطر أخبث الأمثلة في مكافحة الدين والملة، تحت شعار مكافحة الإرهاب، على مر ثلاثة عقود من الزمان، وفي النهاية سقط وحده عندما أريد له أن يسقط، لا كما يتوهمه بعضهم بسبب «عود ثقاب» أشعله بائع خضار فأنار به طريق الثائرين الحانقين، وأشعل عواطف المتهيجين، فأحرقت ناره اليابس ونجا منها الأخضر الطري، وسقط بوهج عود ثقابه وجه النظام والظلم والغطرسة، وبقيت مملكة النظام لتحكم بوجه آخر غير مألوف، فالثائرون لم ينطلقوا من قاعدة صلبة تمكنهم من الثبات والاستمرار، ولم يكن لهم طريق مرسوم من قبل يسيرون عليه إلى النهاية، بل كل أملهم انحصر في إزاحة رأس الظلم المستبد المتفق على ظلمه واستبداده، وبعد تحقيق هذا الهدف تشعب الطريق إلى طرق ظاهرها فيها الرحمة وباطنها يعج بأنواع العذاب، وظهرت الرايات وكثرت الزعامات لاقتناص الفرصة والفوز بثروة العرش التي ما علموا أنها لن تورث إلا للأقربين.
يقول كيسنجر في إحدى لقاءاته بعد الثورات العربية: «بأن المحتجين الغاضبين يعرفون جيدًا كيف يلتقون، ولكنهم بعد أن يسقط النظام لا يعرفون ماذا يريدون أن يقدموا».
إنه درس بالمجان ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ فثورة تونس لم تكن إلا ثورة عواطف بعد كبت طويل، سرعان ما صدمت بها العقول بعدما أزاحت الظالم وحققت إنجازها الأول في زمن قياسي، لتبقى العقول تائهة تردد في قلق ثم ماذا بعد؟
وبعد ذلك النجاح الجزئي، انطلقت شرارة من وهج نارها إلى بلدان الجوار فأضاءت قناديل الشر والهلاك، فثارت العواطف وتهيجت من جديد، وحجبت العقول فلم تستفد من الدرس التونسي لتسير هي الأخرى في الطريق وتتلبس ذلك المنهج الذي تهدف منه إزالة الظلم والطغيان فنجحت نجاحًا مؤقتًا بعد خسائر فادحة كان من الممكن ألا تحدث لو فهمت درس الأمس، فسقط القذافي وحسني بالسقوط نفسه الذي سقط به زين العابدين مع اختلاف في التفاصيل.
فحسني لو أراد العسكر أن يبقى لبقي سنوات لكن العسكر أرادوا أن يسقطوه بعد أن تحول إلى ورقة خاسرة بالنسبة لهم، وبعد أن نوى ورتب لخلع العسكر من الحكم وتولية ابنه المدني.
ومع كل هذا الإخفاق في الثورات انطلقت عدواها وشررها لتحرق البلد تلو البلد في موج متلاطم ظنًا من دهمائهم أن هذا هو الطريق وهذه هي الهداية.
كان مسلسل الثورات مسلسلًا ذا حلقات متشابهة لا يختلف بعضها عن بعض، استغله الحاقدون المتربصون، ليصطادوا في المياه التي تعكرت، فجأة فنجحوا في جهة وأخفقوا في جهات أخرى.
وبالتمعن في سلسلة الثوارات في وقتنا المعاصر عامة وما خلفته من آثار وما حققته من نجاح نستطيع أن نستلهم ونستخلص بعض العبر وذلك «لمن ألقى السمع وهو شهيد»، فالملاحظات واضحة كل الوضوح لأولي الألباب ولمن أراد أن يذكر أو أراد نجاة.
فقد لوحظ أن نجاح الثورات كان نجاحًا صوريًا فقط؛ فهي لم تعدُ أن أسقطت ظالمًا لتنصب مكانه ظالمًا آخر ربما يكون أشد خطرًا وجرمًا من سلفه.
ومع ظلم الرؤساء المخلوعين وغطرستهم إلا أن الجميع متفق أن الأمن خلال فترة حكمهم موجود، ومصالح العباد كانت قائمة، الأمر الذي أفقد الثورات كل تلك الامتيازات، لتحول البلاد إلى ساحة حرب وقتل وترويع وهدم وخراب، فجل ما كان يصنعه الطغاة الظالمون المخلوعون هو التقتير في النفقة، والضنك في المعيشة، وارتفاع معدل البطالة، وهو عشر ما خلفته بعض الثورات من ضياع وضنك وبطالة وغيرها، وإن القتل والفساد الذي حدث بسبب الثورة وفي زمنها القليل أعظم من الفساد الذي حدث طوال فترة حكم الظالمين.
وحدثت الثورات رغمًا عن الطغاة والأنظمة، ورغمًا عن المجتمع بأسره، وظن أهلها أنها قد انتهت، وما يزال بعضها مستمرًا في عامها السادس حتى وقتنا هذا، وقد خلفت ما خلفت من الفساد والدمار والدخول في المجهول وما الله به عليم، فقد أراد الشعب أن يرحل الطاغية فرحل الشعب وبقي الطاغية والدمار.
كتب سلمان العودة في بداية الثورة وقال: «والآن ونحن نعيش ربيع الثورات أشعر أن هناك حالة يمكن أن نسميها «تيه المثقفين بعد الثورة العربية»؛ فقد أفرزت الثورة تيهًا في البحث عن المخرج، تيهًا في إعادة بناء المفاهيم، تيهًا في تصور واقع الثورة، تيهًا في إعادة ترتيب العلاقات، الحلفاء، الأصدقاء، الأعداء».
والحقيقة التي لا مناص منها أن الثورات أفرزت هذا التيه الذي مر به الأقدمون في ثوراتهم المتكررة على مر الزمان.
فهل تعلمنا ممن سبق كيف خرجوا من هذا التيه واستقرت بهم الحال؟
تعالوا نتدارس ونفتش في التاريخ كيف «ثار» – إن صح التعبير- الأقدمون وكيف استقرت أحوالهم لنصحح الأخطاء إن وجدت؟
قال كارل بوبر في «درس القرن العشرين»: «إن السياسات الديمقراطية هي صياغة نظام يمنع كافة أشكال الاستبداد الحزبي أو الفردي أو العائلي أو الطائفي أو غيرها» وهي ما تنادي به الثورات قديمًا وحديثًا وتطمع إليه النفوس الراغبة في التغيير، وعند مراجعة الثورات السابقة على مر الزمان نستطيع أن نضع تصورًا لنهج الثورة التي انتصرت بأقل الخسائر وكان انتصارها ناجحًا على كل المقاييس وفي كل الميادين، وأقصد بالثورات، تلك التي بدأت وانتهت بانتصار عظيم على الظلم والظالمين، وتحقق بموجبها السعادة للثائرين وللبشر كافة، وإن ثورة بكل هذا النجاح لا يمكن أن تكون إلا للأنبياء والرسل وأتباعه السائرين على دربه، الذين يستقون النجاح والتمكين من صاحب النجاح والتمكين سبحانه جلت قدرته، فقد ثار رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على الشرك والمشركين وانتصر للموحدين وأعتق الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فكانت «ثورته» إن صح التعبير نموذجًا يحتذى به للسائرين على دربه من مريدي النجاح والسعادة والأمن والأمان.
ومع أن الثورة لا ترتجل كما يقول مالك بن نبي وأنها «اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعد الثورة» إلا أن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم تختلف بعض الشيء عن تلك الثورات، وسنقف على شيء منها لنستلهم منها العبر في المقال التالي بإذن الله، ثم نعرج بعد ذلك في مقالات أسبوعية مستقلة لنماذج من الثورات التي حدثت على مر التاريخ، نسأل الله عز وجل العون والتوفيق.
أشكركم على المتابعة
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الربيع العربي, تونس, ثورات الربيع العربي, ثورة, ثوره, ما بعد الثورة, مالك بن نبي عن الثورات, مصر