الكساح أو لين العظام، مرض غير معدٍ، يصيب الأطفال في السنوات الأولى من العمر؛ ينتج عن سوء التغذية؛ من خلال نقص عنصري الكالسيوم والفسفور من جانب، وفيتامين <د> من الجانب الآخر ، خصوصًا مع قلة تعرض الأطفال لضوء الشمس المباشر، وتكرار الإصابة بالنزلات المعوية، ومن ثم حدوث خلل في امتصاص الأملاح المعدنية من الأمعاء.
وكساح العقل مرض يصبب عقل الإنسان في المرحلة التي يجب أن يتشكل فيها العقل، ويصل لمرحلة النضج العقلي والفكري.
وينتج هذا المرض من غيّاب القراءة المستوعبة والماسحة لفكر هذا أو ذاك، والاكتفاء بقراءة جملة أو جملتين أو قراءة عنوان المقال أو الكتاب، ثم القيام بإصدار التصنيف والأحكام والتعليقات، دون تمحيص أو تدقيق أو فهم أو استيعاب.
ويشبه وضع هؤلاء رجل في قصة وضّاع الأحاديث وناسبها إلى رسول الإسلام ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي حاسبه الرشيد وأراد معاقبته، فقال له الوضّاع: أتحاسبني على رعية لا عقل لها ولا تفكر أبدًا، وأصر على الرشيد أن يذهب معه إلى جسر بغداد، ففعل ذلك هارون الرشيد، وذهب معه متنكرّا إلى جسر بغداد، وطلب منه الوضّاع أن يتأمل ردود فعل الناس، وأخذ الوضّاع يصرخ قائلًا: أيها الناس بلغني عن فلان وعن فلان عن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ (أنّ أيّ امرئ أوصل أرنبة لسانه إلى ثقبي أنفه فله الجنّة) فشرع كل الحضور في سحب ألسنتهم؛ وحاولوا إيصالها إلى أنوفهم، وهنا قال الوضّاع للرشيد: أتحاسبني على مثل هذه الرعية!
وقد يكون نتيجة إهمال تغذية العقل بما ينفع، فلا نظر ولا بحث علمي رشيد، ولا دراسة لرأى المخالفين، ولا حوار معهم يتحرى الحق وكما قال الجاحظ: إنما الأدب أدب غيرك تضعه في عقلك.
أو يكون نتيجة أن يحصر الفرد نفسه في دائرة من المعارف والقراءات والمرجعيات لا يتعداها أو يتجاوزها حتى ولو عرف غيرها بالأصالة والواقعية والعمق والمنهج العلمي فحرم نفسه من الموارد الثقافية المتعددة وقد قيل: فلن تعرف خطأ أستاذك ومعلمك وشيخك ومذهبك وجماعتك، إلا إذا استمعت إلى رأى مخالف وحجة مخالفة، لا يغرنك الذي يقدمه أستاذك قد يبدو قويا ومقنعًا، ولا يظهر لك عيبه – إن كان به عيب – إلا باستماعك إلى حجة معارضة.
ومن أعراض هذا المرض: البساطة والسطحية في التفكير، وعدم القدرة على الاستيعاب والنظر والتحليل، والبعد والعزلة عن الواقع، وعدم القدرة على مناقشة قضاياه، والتعلق بالمثالية التاريخية، والتحدث عنها حديثًا عامًا، والتغني بالماضي وعظمته، ووجوب إتباعه وترحيل حياتنا هذه إلى حياته أو استحضار حياته إلى حياتنا بجزئياتها وخصائصها .
ومن علاماته أيضا غلبة العاطفة، إذا تحدث صاحبه، أو كتب خاطب العاطفة ودغدغ المشاعر والأحاسيس وكفى، وكثير من الاستشهادات والاستدلالات التي يلجأ إليها تبدو مبتورة وفي غير موضعها، ينشغل بخلافات جوفاء ، وتسيطر عليه أفكار ضحلة ومعارك وهمية وصدق القائل: العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج وبها تنفعل وعليها تصالح وتخاصم.
وقد حذر الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – من أصحاب هذا المرض في كتابه هموم داعية بقوله : <فقد رأيت بني قومي لا يزالون يمضغون خلافات جوفاء وتسيطر عليهم أهواء قاتلة وشهوات غبية ومن حقي وأنا أحد المشتغلين بالدعوة الإسلامية أن أصرخ بأشجاني وأن أبث همومي، إنه هم وثان وثالث>.
ويضيف قائلًا: <إن هؤلاء لا يفقهون أزمات الحياة المعاصرة، ولا يرتفعون إلى مستوى الأحداث ولا يحسون آلام أمتهم ولا يخطر ببالهم ما يبيت للأمة الإسلامية ودينها العظيم من مؤامرات>.
إن هذا المرض يفرز نتاجا ضعيفًا لا يملك المبادرة ولا يقدر على التأثير؛ لأنه صنع ليتأثر أكثر مما يؤثر، فيصير هؤلاء المرضى عائقًا من عوائق النهضة المرتقبة، إذا أصبحوا مجالا يعكس كثيرًا من سلبيات ومخلفات الماضي وتناقضات الواقع الحالي.
ولأن صناعة الإنسان هي أعظم صناعة، وهى الآن واجب العصر والوقت (عصر ثورات الشعوب)، وعقل الإنسان هو قائده، وتفكير الإنسان هو موجهه، لذا كان صناعة عقل وتفكير الإنسان بعلاجه من علله وأدرانه هو من أهم أولويات هذه المرحلة.
وواجب على كل من يتصدر المشهد في هذا الوقت الحرج في تاريخ هذه الأمة أن يضع البرامج العاجلة والخطط السريعة لعلاج هذا الخلل، فإن مصير هذه الأمة مرهون بعقل وفكر أبنائها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست