إن تعدد الحضارات اقتضته الحكمة الإلهية، فالكون قائم على التنوع في الطبيعة سواء في عالم النبات، أو الأجناس أو المعادن، قال الله عز وجل في كتابه الحكيم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين﴾،[1] وفي هذا التشكل والازدواجية والكثرة تظهر الحكمة الربانية التي اقتضت ما عليه العالم من التقابلات، فالحديث عن فكرة حوار الحضارات خاصة في الوقت التي اختلطت فيها المفاهيم، وانقلبت فيها الموازين، وطرحت فيها مسائل حول كيفية التعامل مع الآخر، يقتضي تسليط الضوء على أهم أعلام فكر حوار الحضارات، ونقصد هنا أحد أكثر المنظرين والمتحمسين لهذه الفكرة، ألا وهو زعيم الثورة الفكرية الفرنسي المعروف بـ«روجيه جارودي»، والذي أسس لبنودها في كتابه الشهير «في سبيل حوار الحضارات»، وهو كتاب تميز بمنطق شديد التماسك، وبخطاب موثق بالشهادات والوقائع والحقائق، يمكن وصفه بمرافعة محكمة في الدفاع عن قضية حوار الحضارات.
هذه الدعوة في أطروحة جارودي مرت بثلاثة أطوار زمنية وفكرية، جسدت شخصيته الفكرية في انتقالاته وعبوره بين الأيديولوجيات والأديان، وكشفت عن طبيعته الجدلية والإشكالية، وذهنيته الحائرة والقلقة، بحثًا عن الأمل الذي ظل يفتش عنه في الثقافات والحضارات الإنسانية، وهذه الأطوار هي:
الطور الأول: الدعوة للحوار بين الماركسية والمسيحية، وذلك حينما كان جارودي مفكرًا في الحزب الشيوعي الفرنسي.
الطور الثاني: في سنة 1968م تكوَّنت عند جارودي رؤية لفت بها نظر المجتمع المسكوني للكنائس في جنيف، حيث اعتبر أن الحوار بين الماركسيين والمسيحيين سوف يظل إقليميًّا، حسب تعبيره، ولن يتقدم إلا في نطاق منطقة ثقافية واحدة، وهي منطقة الغرب، وإنه من الأهمية في نظره التحول نحو إدارة هذا الحوار على مستوى الحضارات، وكانت الغاية من هذا الحوار في نظر جارودي هي بناء العلاقة بين الإيمان والتاريخ، الإيمان والعالم، الإيمان الذي يعطي الشعوب القوة والأمل في تغيير العالم والحياة.
الطور الثالث: التأكيد والتركيز على الحوار بين الغرب والإسلام.
وهذه الدراسة تطمح للتعرف إلى دعوة جارودي إلى ضرورة حوار الحضارات، فما هو فكره التأسيسي لحوار الحضارات؟
لقد وظف جارودي في كتاباته عدة مناهج أبرزها المنهج الوصفي السردي التاريخي، متزامنًا مع المنهج النقدي التحليلي، بأسلوب فلسفي وفني أدبي، ينم عن روح فنان أصيل أو ناقد فني متخصص، عند حديثه عن النماذج الحضارية المختلفة من آسيا وأفريقيا، وما كان من تأثير فني لها على الفنون الغربية، كما نجده يوظف في المنهج التاريخي منهجًا مقارنًا بين الشرق والغرب، وحضارتهما والمبادئ التي تحكم كل منهما، فتجد مناهج متكاملة: فلسفية، تاريخية، أدبية فنية، وكذلك تجد تكاملًا في النماذج المقدمة من كل طرف من الأرض، لتقديم فكرته عن حوار الحضارات الذي يسعى إليه. مؤكدًا ضرورة الاستفادة من الإنتاج الإنساني بشكل عام، مؤكدًا أن الغرب رغم تمركزه على ذاته، ما هو إلا تشكل حضاري سابق استفاد منه في تفوقه المادي الحاصل الآن. وأن «منابع الغرب وروافده الحضارية – الإغريقية والرومانية والمسيحية – إنما ولدت في آسيا وفي أفريقية»[2].
وبهذه المناهج المتكاملة اعتمد جارودي في مرافعته في سبيل حوار الحضارات على عناصر أساسية:
أولًا: بلد الغسق وأساطيره، «عقدة مارتون» وذكر فيه عن بول فاليري أن أوروبا وليدة تقاليد ثلاثة:
1- ـ التقليد المسيحي: وقد بين فيه أن المسيحية منذ القرن الأول شابه الفكر الإغريقي مؤكدًا أن «الجانب الأصيل في المسيحية هو الجانب الشرقي»[3].
2- ـ التقليد الروماني: ذكر فيه الحقبة الرومانية التي كانت رافدًا من روافد الشخصية الغربية أنها «حقبة من حياة روما، وفيها استعيض عن الإبداع بنهب الثروات والثقافات، وبهذا الاعتبار كانت روما تصلح لنشر المأخوذة من الشعوب الأخرى»[4].
3- التقليد الإغريقي: يقول في ذلك إذا «رفضنا اعتبار الغرب ماهية جغرافية، ونظرنا إليه باعتباره حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس، وجدنا أن مثل هذه النظرة إلى العالم ترقى إلى الحضارة الأولى المعروفة، تلك التي ظهرت في دولتي – دجلة والفرات – في بلاد – الجزيرة وهي العراق اليوم»[5].
وتساءل جارودي عن انفصام الغرب عن هذه التيارات الثلاث المكونة له، مبينًا أن الغرب مثلما يظهر، نبات لا يمكن معرفة جذوره، وأنه كائن فريد وحيد، كنوع من معجزة تاريخية، وأكد أن هذا يخفي الجوهر الأساسي في «أن ما اصطلح الباحثون على تسميته باسم الغرب، وإنما ولد في ما بين النهرين وفي مصر أي في آسيا وأفريقيا»[6].
وقد بين المفكر الفرنسي مدى انغلاق وتقوقع الغرب على ذاته، خصوصًا في المعاهد الفرنسية التي تحرم الطالب في المدارس الثانوية من الاطلاع على ثقافات الهند والصين وأفريقيا والإسلام.
ثانيًا: الغرب عرض، يعمل جارودي في هذا الفصل على إبراز مدى فردانية هذه الحضارة الغربية القائمة على المجتمعات الصناعية، التي حولت الإنسان إلى آلة لا تعرف إلا الإنتاج من أجل الاستهلاك.
وقد كشف عن السبب الرئيسي الذي جعل الحضارة الغربية تصل إلى هذا النمو الصناعي، وهو الاستعمار الذي استنزف ثروات البلدان المستعمرة بأبشع الأساليب، مستعملة أحدث الأسلحة التي وصلت إليها. ويؤكد أن المؤسس للحضارة الغربية هي سواعد الأفارقة الذين اختطفوا من أراضيهم «أن التجارة الأساسية مع أفريقيا ظلت تجارة العبيد طوال ثلاثة قرون.. وقد قامت حرب مستمرة بين الجماعات الأفريقية للاستيلاء على الأسرى من أجل بيعهم على الشاطئ إلى الأوروبيين»[7].
ففي نظر المفكر جارودي لا سبيل للخروج من هذه الحلقة المفرغة إلا بفتح «الحوار الحضاري» مستشهدًا في طرحه هذا بـ«هوغدي فارين» في كتابه «ثقافة الآخرين»: «إننا نحن مالكي الحضارة التقنية وعبيدها إنما علينا أن نرقب من ثقافة الآخرين قدرتنا على البقاء»[8].
إن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، وقد تم دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم التمييز بين ما هو مشترك إنساني عام وبين ما هو خصوصية حضارية.
وكل هذا مع الاستمداد من المنهج القرآني البديل الذي انبهر به جارودي واتخذه مسلكًا «بهذا يصبح المنهج الإلهي بديلًا… فليس إعجاز القرآن في المبنى اللساني ولكنه في المعنى المنهجي ـ الذي يعتبر ـ حجته الآن على أهل الحضارات العلمية ضمن أرقى أشكالها الوضعية العالمية… التي تظل محتوى للوعي الكوني أكبر من موروث النبوات، بل هو الحكمة المهيمنة على حكمة الأنبياء والوعي الذي يتجاوزهم زمانًا ومكانًا، كما يتجاوز كل زمان ومكان،… لقد منحنا الله بمحمد منهجًا يرقى على كل المناهج ونورًا نافذًا إلى كل التفاصيل، وساطعًا في كل الأرجاء، محيطًا بكل التجارب ويتجاوزها في الوقت نفسه بالنقد والتحليل… وبه ندرك أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل»[9].
فالقرآن الكريم «كتاب حوار فهو الذي يجب أن ندرسه دراسة واعية، لنجد فيه الوثيقة الرائعة من وثائق الحوار الديني الذي يتعلق بكل قضايا العقيدة ابتداء من فكرة وجود الله، ووحدانيته، إلى الأحكام الشرعية»[10].
وفي السيرة النبوية تطبيق لهذه المبادئ وفي ذلك يقول محمد حسين: إن «السيرة النبوية الشريفة هي بحق تمثل التطبيق العملي للمنهج القرآني الذي ركز القاعدة وأقام البناء»[11].
ثالثا: الفرص المفقودة، ويقصد جارودي هنا المنتج الإنساني الذي أضاعه الغرب بتمحوره على ذاته، فهو ينبذ العزلة والانحياز، ويشير إلى أن الغرب لو أنه استفاد من الحضارات الأخرى بفتح حوار حقيقي معها لعم النفع على الجميع، متأسفًا على ضياع الحضارة الألمانية وضياع الفرصة على الغرب.
كما تحدث عن الإنتاجات العلمية للحضارات المختلفة، ومنها الحضارة العربية وما وصلت إليه من تفوق علمي كان رحمة على المجتمعات التي دخلها، وهو يدحض ادعاء الاستعمار الإنجليزي والإسباني والفرنسي حول ما يطلقون عليه «غزو إسبانيا» بقوله «لم يكن غزوًا عسكريًّا لقد كان عدد سكان إسبانيا في ذلك الحين زهاء عشرة ملايين نسمة ولم يزد عدد الفرسان العربية في الأراضي الإسبانية البتة على سبعين ألفًا، وإنما لعب التفوق الحضاري دورًا حاسمًا»[12].
رابعًا: الأبعاد المطلوبة مجددًا، اهتم المفكر الفرنسي كثيرًا بتأثير الشرق في الغرب، خاصة في الجانب الفني والذي ركز عليه بشكل كبير قائلًا: «نشاهد أن تأثير الثقافات اللاغربية في الفن الغربي تأثيرًا ثابتًا لا مراء فيه، منذ عصر النهضة»[13].
وقد دعا إلى توحيد الشرق والغرب والأمر بتكامل جميع الأبعاد الإنسانية، ونادى بهذا المطلب أيضًا مفكرون غربيون، مما نجم عن ذلك أن بدأت النسبية تصيغ بصبغتها قواعد الجمال المقررة في عصر النهضة، والقائمة على مفهوم عن العالم يرى أن الإنسان، بوصفه فردًا، هو مركز الأشياء كلها ومقياسها[14].
ففي «الإسلام جميع الفنون تؤدي إلى المسجد والمسجد يحمل الصلاة، إن الجامع الذي تكاد حجارته نفسها تصلي، مركز إشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية وهو نقطة الالتقاء لجميع الفنون… ويستجيب الجامع بطبيعة بنيته لوظيفته فهو لا يشبه الكنيسة المسيحية ولا المعبد اليوناني… إن الحيز «الفارغ» هو أحد مميزات الفن الإسلامي: ليس فحسب لا يأوي المحراب أي تمثال أو أية صورة ولكنه يعني الله بهذا الفراغ نفسه من كل شيء: إن الله موجود، حاضر في كل مكان ولكنه لا يرى في أي مكان»[15].
خامسًا: المشروع الكوني، عمل جارودي على إبراز امتيازات وإيجابيات اللقاءات الحضارية القديمة ويمثل لذلك بقوله «إن أراضي الدلتا الغرينية في مصب الأنهار الكبرى، وهي تيسر أسباب الزراعة والحياة الحضرية، سرعان ما غدت مراكز حضارية متألقة أفادت من الإخصاب المتبادل بلقائها»[16]. والهدف من هذا التأمل كما يقول، معرفة شروط إمكان لقاء جديد، وليثبت أن الاكتشافات العظمى في عصر النهضة تبقى أمورا نسبية، وإنما كان هذا العهد منطلقًا للاستعمار ومؤطرًا لفكرة «العالم الآخر»، ومما زاد تعميق الأمر أن هذا التاريخ كتبه الذين أرادوا السيطرة لإبراز التفوق الثقافي والحضاري وقد بين بعض شروط إمكان اللقاء الحضاري:
– دراسات الحضارات اللاغربية بأهمية تعادل الثقافة الغربية.
– أن يشغل مبحث المجال منزلة تعادل بأهميتها على الأقل أهمية العلم والتقنيات.
– أن تعادل النظرة الأمامية المستقبلية والتفكير في الغايات والأهداف أهمية التاريخ على الأقل[17].
وقال: «هذه هي التغييرات الأساسية الثلاث التي يستطيع بها حوار حقيقي بين الحضارات في مضمار منظومتنا التربوية»[18]. مؤكدًا الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه التربية في تحقيق التنمية النابعة من الذات، والمعتمدة على القوى الخاصة.
ويدعو جارودي إلى التعامل مع الآخر واكتشاف الذات من خلاله، مؤكدًا ضرورة الجمع بين المعنوي والأدبي والتقني، وعلى الدور الذي يناط بالأديان في هذا الأمر – أي في إحداث تغيير في الناس – حيث إن التفاعل الحضاري لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا عن طريق حوار بناء وفعال بين الأديان، ولعالم اللاهوت الألماني هانس كنج قول شهير في ذلك:«لا حوار بين الحضارات بدون سلام ولا سلام بدون حوار بين الأديان)»[19]، والهدف من هذا الحوار هو تحقيق (العيش المشترك) في عالم يسع الجميع مهما كانوا متباينين على المستوى العقائدي والثقافي والحضاري، ويطلق على هذا المصطلح – كما حددته مريم آيت أحمد – بـ«حوار الحياة»[20]، حيث إن «عملية التفاعل مع الآخر الحضاري، لا تعني الذوبان أو الانسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والانتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد، المهيمن، المسيطر، الغالب. وإنما التفاعل يعني: إن ما من جسم حضاري إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم، لذلك فالتفاعل لا يعني المماثلة وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، وإنما التفاعل هو عبارة عن حركة داخلية- ديناميكية – تجري في عروق المجتمع والأمة متحفزة للبناء والتطوير، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر»[21].
خلاصة: لقد أنفق جارودي جل عمره في سبيل ترسيخ مبادئ حوار الحضارات التي تجاهلها الغرب نيفًا من الزمن. وقد وجد ضالته في تبنيه للمنهج الإسلامي، وسطر قاعدته المأثورة التي تؤمن بأن تحقيق الحوار المنشود بين الإسلام والغرب يقتضي إعادة طرح جديد يُبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويعيد النظر في الأهداف والوسائل الموصلة إلى ذلك، ولن يتأتى هذا الهدف المنشود والمتوخى إلا بتوسيع قاعدة هذا الحوار ليصير حوارًا ثقافيًّا مدنيًّا، يشمل كل المكونات والفعاليات الثقافية في المجتمعين المتحاورين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست