عندما تريد دراسة أي ظاهرة من الظواهر، أو قضية من القضايا، وتكون نقطة الانطلاق هي الوحيان الشريفان (القرآن الكريم والسنة النبوية) لاستخراج الحكمة والأحكام والمقاصد الشريفة والنبيلة الرامية والهادفة والهادية إلى الطريق الصواب وإلى الحلول الراشدة، فلابد من مجموعة وعدد من النقاط والمراحل والإجراءات، النظرية والعملية، المهمة والأساسية، والتي يجب علينا أن نتبعها حتى نستنبط من الوحيين الشريفين  الأفهام الصحيحة لتكون نور ورحمة وراحة لكل البشرية.

الاستقرار النفسي، بمعنى عندما نريد إسقاط النصوص الشرعية على ظاهرةٍ ما، أو قضيةٍ ما، فلا ينبغي أبدًا الدخول على القرآن الكريم والسُنة النبوية بأحاسيس وتصورات مسبقة، كالكراهية أو الحُزن أو الحقد أو البغضاء أو الحسد أو الجشع أو الطمع أو روح الإنتقام أو الغيرة أو التكبُر والكِبر والخيلاء أو الغضب أو الاكتئاب أو الهوس أو الضغط أو القلق، فكل هذه الأمراض والعُقد النفسية وغيرها، قد تُصيب أو تُحدث حالة من اللا استقرار وعدم التوازن في الفهم فيحصل عطب وعطل وخلل كبير واضطرابات مهولة تأثر في الذهن، وتُحول الإنسان وتجعله شخص مُرتبك ومُنعدم وفاقد للسيطرة الذاتية، فلا يُصبح صاحب حق وحقيقة لا، بل يُصبح صاحب هوى؛ وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من هذه الظاهر فقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) (سورة المؤمنون، آية 71)، يجب أن نترك كلام الله عز وجل وسُنة نبيه تقودنا ولا نقودها، تُسير ولا نُسيرها، تُسيطر ولا نُسيطر عليها، يجب أن ندعها توجهنا ولا نوجهها ولا يجب أن نتحمس ونثور، لا بل يجب أن نترقب منها التهيب والأدب، إن الفقه والفكر وكل الأطروحات والاستنباطات التي صُنعت وأُنتجت وتبلورت تحت الضغوط النفسية أو بين جدران السجون فلا يمكن أن تكون إلا أفكار مضطربة، لم تستوف حق النظر ولم يتهيأ لها مسلك صناعة العلم على ما تعود عليه أهله فقد روى البخاري في صحيحه قال: (كتب أبو بكرة إلى ابنه بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان (ابنه كان قاضي) يقول: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: (لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان) والسبب أن هذه الأحاسيس كالغضب والانفعال لا يترك للعقل مجال في الفصل في الحُكم والنظر فيه، بل تجعل الإنسان مشحونًا بطاقة سلبية.  

  • علينا بجمع كل الآيات والآحاديث المتعلقة بالظاهرة أو بالقضية، حتى نتمكن من بناء الفهم السليم وصناعة النظرة الشفافة والواضحة، والمتكاملة والمكتملة، وهنا الحيطة والتريُص والترصُد والحذر مطلوب، فلا مجال للخطأ ولا مكان للنقص ولا عُذر على النسيان، فإذا غابت آية أو حُذف حديث، تغير المعنى وانحرف المقصد إلى ما لا يبتغيه رب السماوات والأرض وما بينهما.
  • علينا أن نستحضر أو نُشغل مختلف دوائر العلوم الخادمة للشرع الشريف، والمتعلقة أو المتصلة عن بُعد أو عن قُرب بالقضية المطروحة على طاولة البحث العلمي، ولا ينبغي أبدًا أن نعزل هذه العملية المُعقدة والصعبة والدقيقة، عن التجربة البشرية والتي تتمثل في (التاريخ)، لأن الأحداث والوقائع والقصص المذكورة في القرآن الكريم، أو المدونة في كُتب (التاريخ)، قد تكرر عبر الزمان وقد تتكرر بختلاف المكان، أو قد تتشابه في جانبٍ من الجوانب، أو قد تتمثل في شكلٍ من الأشكال، وقد أجمع العديد من فقهاء الأمة على هذه الطريقة وعلى هذا المنهج ومن بينهم العالم الجليل والفقيه الحنبلي العظيم (سليمان بن عبد القوي بن الكريم نجم الدين الطوفي)، والذي قال في كتابه (شرح مختصر الروضة/ ج3 / ص577): (إن أحكام الشرع الشريف كما تُستنبط من الأوامر والنواهي، كذلك تُستنبط من الأقاصيص والمواعض ونحوها، فَقَلَ آية في القرآن الكريم إلا ويُستنبطُ منها شيء من الأحكام)، وقال (محمد ابن علي دقيق العيد) الحافظ الفقيه والمحدث البارع و الموهوب، والذي نقل كلامه المؤرخ والفقيه المصري (الزركشي) في كتابه (البحر المحيط /ج2 /ص199) قال: (إن الاستنباط، غير منحصر في العدد، بل هو مختلف بإختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله على عباده من وجوه الاستنباط، ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالةً أولية بالذات لا بطريق التضمُن والالتزام)، أي أن عملية استنباط الأحكام من القرآن الكريم والأحاديث النبوية غير مُقيدة ولا مُنحصر في أو على آيات معينة؛ لأن نعمة الموهبة والذكاء والدهاء له دور كبير في تفعيل نص أو آية من آيات الله أو القرآن الكريم بشكل عام مع مختلف دوائر العلوم، وقد تتفاوت الأفهام بتفاوت الأذهان.
  • ثم تأتي مرحلة تركيب النصوص، وهي مرحلة تتطلب تركيز وجهد ذهني كبير، حتى نستطيع ضم النصوص المتصلة بالقضية أو بالظاهرة إلى بعضها البعض، وحتى يتقدم منها ما يستحق أن يُقدم، ويتأخر منها ما يستحق أن يُؤخر، وحتى يظهر ما هو عام وما هو خاص، وما هو مُطلق وما هو مُقيد، وما هو تابع وما هو ثابت ومستقل. 
  • حذاري! إن التمعُن وحسن النظر في الدلالة، ومعرفة دلالة الألفاض العربية التي جاءت في النص القرآني أو الحديث النبوي ضروري، لابد من توفر بصر واسع بلسان العرب وعلوم العربية، قال العالم والفقيه (محمد الشوكاني) في كتابه (الفتح الرباني، من فتاوي الشوكاني / ج11 / ف5248): فمن أراد أن يفهم كتاب الله وسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام على مُقتضى لسان العرب، ولا يتم معرفة له أصل معنى اللفظ إلا بمعرفة علم اللغة، ولا يتم له معرفة بنية الألفاظ العربية إلا بمعرفة علم الصرف، ولا يمكنه معرفة الحركات الإعرابية إلا بعلم النحو، ولا يُمكنه معرفة دقائق اللغة العربية وأسرارها إلا بعلم المعاني والبيان، ولا معرفة قواعد العربية إلا بعلم الأصول، ولهذا كانت هذه العلوم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية، وإن خالف في إعتبار البعض منها في الاجتهاد البعض من أهل العلم، و هو الحق إذا اعتبرنا الجميع؛ لأن فهم لغة العرب على الوجه المطابق لما كانت عليه اللغة لا يتم إلا بذلك، وبلا شك ولا ريب أن دقائق اللغة يستفاد من العلم بها العلم بدقايق كتاب القرآن الكريم والسُنة النبوية، والدقائق تُستخرج منها ومن صُلبها  الأحكام الشرعية  كما تُستخرج من الظواهر).  
  • حذاري! أن تستبطوا من الحديث النبوي والقرآن الكريم معاني هدامة لمقاصده، يجوز أن نستنبط من النص الشريف معنى يخصصه أو يعممه، لكن لا يُستنبط معنى يعود عليه بالبطلان، وقال (الإمام ابن حجر الهيتمي) في كتابه (الفتاوى الفقهية الكبرى / ج1 / ص215): ومن قواعد الشافعي رضي الله عنه أنه يستنبط من النص معنى يُخصصه أو يُعممه ولا يستنبط نصًا يعود عليه بالبُطلان)، فمن استنبط من الوحيين الشريفين معنى يكفر به الأمة أو يجعلها في جاهلية كفر وشرك، ويخرج عليها بالبغي جهادًا فإن هذا الاستنباط يعود على الوحيين الشريفين بالبُطلان.
  • إن تشغيل التراث الإسلامي، يتطلب أن نكون من أصحاب العقل لامن أصحاب النقل دون الوقوف عند المسائل المعينة التي أفرزها زمانهم وتجاوزها زماننا، لابد من عقل يشتغل في العلاج والتصوير والتكييف والتدليل والتعديل الصحيح للتراث الإسلامي فلا يمكن أن نأخذ به كله ولا يمكن أن نغيره كله، بل يجب أن نأخذ منه ونُضيف له باحترام علمائه وأن نحترم عقولهم التى تفاعلت مع زمانهم.
  • إن صناعة الفهم الناضج والصحيح يتطلب ثلاثة أركان: معرفة الوحيين الشريفين معرفة شاملة وكاملة ومُفصلة، ويجب معرفة مناهج فهمِهما، إدراك الواقع وأي الإلمام بالظاهرة أو بالقضية، فلا يجب أن نكون ممن يدعي النص ويتمرد على المنهج ويغلبه الواقع.
  • باب المصالح والمفاسد، أي (الحلال والحرام) لا يصلح الإجتهاد فيه بالمُطلق إلا على العلماء الذين أحاطوا بكل مقاصد الشريعة جملة وتفصيلة ،والشيخ فركوس في الجزائر وأمثال الشيخ فركوس لا يحق لهم شرعا بإصدار الفتاوى على العامة لأنهم ليسوا علماء وبدليل أن (الشاطبي) قال في كتابه (الموافقات / ج4 / ص162): الاجتهاد، إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلابد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني، من المصالح والمفاسد مجردة من اقتضاء النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يستلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلًا).   
  • غياب المعرفة بمقاصد الشريعة والسُنن الإلهية يتركان خلل كبير وعميق في الفهم والذي يتمرد على هذا المنهج فسد فهمه للنص وفسد فهمه للواقع.
    أيها القارئ، لما يكون إنسان فاقدًا لمناهج الاستنباط، فاقدًا ولا يمتلك أدوات الإدراك والفهم، ويحاول أن يمارس صناعة ثقيلة وهو مشحون بالهوى وبالحماس الجارف والمنحرف وبالرغبة في التكفير، ويدخل على القرآن الكريم ويريد أن أن ينتصر لنفس لا لحق، هنا تبدأ تتشكل ظاهرة غريبة ومخيفة وخطيرة أسميها ظاهرة (حافظ وماهوش فاهم).
  • إن الله لخص منهجية الفهم وطريقة التعامل مع النص وتطبيقه على البشر في (سورة الفاتحة)، سورة الفاتحة هي مفتاح الفهم ومسطرة الاستنباط ومنهج التعامل وميزان التأويل، يعني شعار عام، وتثبت هذا الشعار في الصلاة وفي المعاملات وفي التجارة والزواج والدعاء وعند الموت، وأصبح هذا الشعار يتكرر ويتقرر في أي شيء وكل شيء له بداية.

ظاهرة (حافظ وماهوش فاهم) أنتجت لنا للأسف تيارات وجماعات ومجموعات وشخصيات وكُتب وكتابات وأطروحات وفلسفات غير مؤصلة قلقة ومضطربة، تتغذى بها ومنها ظاهرة الإرهاب.

إن عملية النحت والاستنباط من الوحي الشريف هي صناعة ثقيلة، تحتاج إلى عقل ذكي واسع الحيلة، عقل يتدبر ويُفكر ويُفكك، يُركب ويُفسر، يُحلل وهو عارف مُتبحر في مختلف دوائر العلوم الخادمة للوحيين الشريفين، وحتى يستطيع أن يستخرج من النص الأفهام الصحيحة والفتاوى المؤصلة والمبنية على الأسس العلمية والمقاصد الشريفة والنبيلة لتنتفع بها البشرية وتمتلئ القلوب والعقول بالنور والرحمة والراحة.

أيها القارئ هذا المقال، يرد ويُبين الأحكام الغائبة عن كل الحركات والتيارات اللإسلامية المتطرفة في فهم القرآن الكريم والحديث النبوي والشرع عامة، هذا المقال يقابل و يقارن الفكرة بالفكرة، ويقرع الحجة بالحجة ويجاهد القلم بالقلم في ميدان الورقة لا أكثر ولا أقل.


   
     

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

شرح مختصر الروضة
الزركشي : البحر المحيط
أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام : الفتاوي الفقهية الكبرى
صحيح البخاري
الشاطبي : الموافقات في أصول الفقه
عرض التعليقات
تحميل المزيد