إن عودة روسيا سوف تكون بلا شك واحدة من الديناميات الكبيرة في القرن الحادي والعشرين. الثورة الاستثنائية في روسيا والدبلوماسية النشطة هي التي سوف تُغير بالفعل المعطيات الواقعية للسياسة الدولية، لقد كان انهيار الشيوعية حدثًا استثنائيًا على صعيد الاستقرار الهيكلي للنظام العالمي. وهذا ما جعل العديد من الجهات الدولية الفاعلة تواجه مشكلة كبيرة في استيعاب الحقائق المنهجية الجديدة الناشئة، وإعادة النظر في سياساتها الخارجية. في حين كانت المشكلة الاستراتيجية التي واجهت النخبة السياسية في روسيا تكمن في كيفية التغلب على متلازمة عصر ما بعد الإمبراطورية، خاصة في ظل الاعتقاد الراسخ بأن فقدان الإمبراطورية ربما لم يكن نهاية القصة، وليست نهاية التاريخ كما روّج لذلك الغرب في تأطيرات «فوكوياما». هذه التوجهات جاءت ضمن أجندة الزعيم «فيلاديمير بوتين» عندما تولى مقاليد الحكم والسلطة في روسيا.

إن الفكرة الأكثر لفتًا للانتباه في روسيا – البوتينية، هي الإحساس بأن روسيا لا تعتبر نفسها هُزمت في الحرب الباردة؛ وبالتالي، فإن التراجع في المكانة الدولية ليس أكثر من كونه تراجعًا مؤقتًا للاستجابة إلى الظروف الطارئة، وسوف يكون من غير اللائق الاستسلام لهذا التراجع، والذي قد يفتح شهية بعض القوى الدولية للاستمتاع باحتكار قمة المجد العالمي، والحقيقة هي أنه لا شيء يمكن أن يجبر الروس على مجرد الجلوس والمشاهدة، في حين تتم صياغة قواعد جديدة للهيمنة على العالم. وهذا ما يُعطي نخبة السياسة في الكرملين ثقةً نهائيةً بأن روسيا لا يمكنها، إلا أن تكون قوة عظمى؛ لأنها ببساطة تحتل مكانة فريدة في البنية الجيوسياسية العالمية، ولذا فإنها ستكون قادرة على أن تتولى دورًا نشطًا في إدارة شؤون العالم في المستقبل.

هذا هو بالضبط ما يُزعج الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، روسيا لا تعترف بحقائق ما بعد سقوط جدار برلين، وهي لا تكترث للمحددات الدولية الناشئة في زمن ما بعد الصراعات، وعلى الرغم من زوال العديد من الأوهام العالقة في أذهان صنّاع القرار الروس، إلا أن في روسيا من لا يزال ينظر إلى السياسة الدولية انطلاقًا من الروح الكلاسيكية، وهذا ليس مقصورًا على الروس وحدهم، بل يشاركهم فيه الأمريكيون والأوروبيون، وهذا ما يُعيد الذاكرة إلى التفكير بعقلية الحرب الباردة.

إن من أهم المتغيرات التي بشّر بها القرن الحادي والعشرين، هي اتساع حالة الاعتماد المتبادل بين الجهات الفاعلة في النسق الدولي، لكن هذا لا ينفي مبدأ المنافسة كقوة دافعة رئيسة في الشؤون الدولية، والتي تمليه اعتبارات المصالح المتضاربة أو المتقابلة بين تلك القوى. يضاف إلى ذلك، تفاقم الاختلالات في النظام الدولي؛ نتيجة للإجراءات أحادية الجانب التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي تنطوي على ارتدادات سلبية في كثير من الأحيان، على نحو يتضح في اختراقٍ صارخٍ لقواعد القانون الدولي. وهذا ما يعطي روسيا حيزًا استراتيجيًا مواتيًا للظهور على أنها تضطلع بسياسات أكثر إيجابيةً واعتدالًا في الشؤون الدولية. والأهم من ذلك، أن موسكو بادرت إلى الاستفادة من التراكمات الواقعية التي خلّفتها السياسات الأمريكية المتشددة في العالم، والتي جعلت السياسة الأمريكية غير مرغوب فيها.

وبالرغم من أن روسيا قد تخلت عن الشيوعية كأيديولوجيا عالمية، وقبلت بالحقائق الرأسمالية للاقتصاد العالمي، إلا أنها ما تزال – من الناحية الجيوبوليتيكية – تبحث عن المكانة التي تستحقها في العالم. وفي هذا الصدد قد يُثار لنا تساؤل حول الآلية التي تُحدّد فيها روسيا دورها العالمي، في ظل تنامي قوتها وتشعّب مصالحها إلى ما وراء حدودها الإقليمية. وعلى ما يبدو فإن روسيا تمكنت من الخروج من الشرنقة الجيوبوليتيكية التي نتجت عن الانهيار السوفياتي، واتخذت لها مسارًا جديدًا نحو إعادة تحديد دورها، في إطار النزعة التي امتلكها الجيل الجديد في الكرملين، والتي تبلورت في تبني سياسات أكثر قوميةً وإثباتًا للذات، وأقل تعاوناً مع الغرب، وفيما تُمليه اعتبارات برغماتية في إطار مبدأ السياسة الواقعية. وتنطلق نخبة السياسة الروسية في هذا الدور من الشعور العارم بخيبة الأمل تجاه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والتي عمدت إلى إذلال روسيا وتهميشها وعزلها.

بوجه عام، يمكننا القول إن صرح العلاقات بين روسيا والغرب لا تزال تطارده التعرجات والتناقضات وفقًا لتعقيدات الحالة السياسية الدولية، وهذا ما يعطي القوى الدولية تحذيرًا استراتيجيًا كافيًا. في الواقع، لقد أصبحت الصراعات أكثر استعصاءً على الحل، في ظل تناقض الأدوار وانعدام أي ضمانات حقيقية للتوافق والانسجام في السياسات. روسيا تحاول استخدام نفوذها المتنامي لإعادة تشكيل قواعد ومؤسسات النظام الدولي لخدمة مصالحها على نحو أفضل، في حين إن غيرها من الدول التي تضعُف هيمنتها تنظر إلى روسيا على أنها تُمثل تهديدات أمنية متزايدة، وهذا التوجه أدى إلى نشوء معضلة أمنية دائمة في السياسة الدولية.

إن تسارع وتيرة التغيير الإستراتيجي في عصر ما بعد الحرب الباردة أنتجت نصيبها العادل من الارتباك في الأوضاع الإستراتيجية. لقد أصبحت العولمة أيضًا مصدر القلق السائد في دوائر صنع السياسة الروسية؛ لأن الغرب لم يراع أي التزامات سياسية أو متلازمات قانونية تجاه إدارة المرحلة الجديدة، في حين كانت مسألة «الشراكة» مع روسيا، أقل توافقًا من حيث الممارسة العملية مما كانت عليه ضمن الإطار النظري.

في أعقاب الأزمة في جورجيا، شعرت روسيا بنشوة النصر لسياستها الخارجية، فقد تمكنت من إحداث تغير في موازين القوى الإقليمية. بل إن موسكو سلكت منهجًا أكثر صرامةً وتصميمًا في تحدي السياسات الغربية، بغرض تصحيح الخلل في التوازن مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلى علاقة متكافئة بين ندين وشريكين على قدم المساواة في إطار عالم متعدد الأقطاب. هذا الأمر ألهب حماسة الروس إلى إعادة تحديد علاقات روسيا بكافة دول العالم وبالشعوب الأخرى.

وفقاً لوجهة نظر القادة السياسيين وخبراء الإستراتيجية الروسية؛ إن ظهور بيئة أمنية معقدة ومتعددة القطبية في العالم، تؤدي إلى منح موسكو فرص متجددة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، في حين يبقى النهج الدبلوماسي الروسي يُركّز على تحقيق القدر الأكبر من النفوذ الإستراتيجي، من خلال مزيج متشابك من السياسة الواقعية وسياسة توازن القوى، بما في ذلك ضمان توفير استقلالية أكبر في القرار الروسي، مع امكانيات لإحداث مزيد من التنمية السياسية والاقتصادية في البلاد.

على النقيض من ذلك، الغرب لم يكترث للمتطلبات الاستراتيجية الروسية في عصر ما بعد الحرب الباردة، بدلاً من ذلك، عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقييد حركة روسيا في أوروبا الشرقية والوسطى، وهي المناطق التي كانت تحت سيطرة موسكو في العهد السوفياتي. بالإضافة إلى ذلك، تولدت لدى الغرب رغبة احتكار المعالجات متعددة الأطراف حول قضايا الأمن الإقليمي في المجال الأوراسي. وهذا الأمر يعتبر نذير خطر بالنسبة للتوازن الجيبولويتيكي الذي تأخذه روسيا بعين الاعتبار ضمن حساباتها الإستراتيجية. وهذا سبب كافٍ ليدعو إلى التشاؤم؛ لأنه يكشف النقاب عن الخطوط الحمراء في العلاقة الساخنة بين روسيا والغرب. كلا الطرفين لديه مصلحة في إنهاك الطرف الآخر، وهو ما يدعو الطرفين إلى ممارسة سياسة الضغط في نقاط ضعف الطرف الآخر. لذلك نجد الغرب يضغط على روسيا في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، في حين أن موسكو تسارع إلى قطع الطريق أمام المساعي الغربية، وهذا هو محرر التصور الإستراتيجي لكل من الطرفين.

والحقيقة الثابتة إزاء موقفٍ من هذا النوع، هي أن اختراق العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والغرب على هذا النحو يُمثّل نقطة تحول خطيرة في النسق الدولي. إن هذا النهج قد رفع من مستوى الارتباك الإستراتيجي في السياسة الدولية، ودفع الروس إلى اللجوء إلى دبلوماسية الإكراه، كما هو الحال في دول البلطيق وآسيا الوسطى، فضلاً عن سياسة العمل العسكري المباشر، كما هو الحال في جورجيا وشبه جزيرة القرم، والأزمة الطاحنة في أوكرانيا.

إن أحد أعظم الإنجازات التاريخية في عصر التعددية القطيبة، هو أن روسيا لا تزال تمتلك فرصةً حقيقة لكي تكون إحدى القوى الرئيسية المؤثرة في إدارة الأمن وإحداث الاستقرار في أوروبا. من أجل ذلك، لم تُفسّر موسكو المبادرات الخاصة بالناتو على نحو حميد كما يأمل به الغربيون والأمريكيون. إن لدى الروس قناعة راسخة بأن مسألة إسهام الناتو في ضمان الأمن الأوروبي ومشروع التوحيد القاري، لا تزال مسألة مثارة للنقاش، وستبقى كذلك.

بالنسبة لروسيا، هناك معادلة واضحة، فالناتو هو نتاج لزمن الصراعات، وهو أداة للمواجهة والابتزاز، وهذا مما عفا عليه الزمن، فالخوض في الماضي لا تزال الوسيلة الأكثر ملائمة لتحويل الأنظار عن الحاضر. لكن إذا حدث انجراف في السياسة ضمن الحسابات الإستراتيجية الضيقة للروس أو الأمريكيون أو الأوروبيون، فمن المحتمل أن يتخذ ذلك شكل الردة المتزمتة. لكنه ليس بالضرورة أن يُفرز حربًا باردة جديدة في العالم، هذا ليس مرغوبًا فيه من قبل الجميع، فمن وجهة نظر تحليلية بحتة، لا يمكن النظر إلى ما يحدث على أنه حرب باردة، فليس بمقدور أحد من القوى الدولية أن تقوم بالأعباء اللازمة لحرب باردة، ولا يملك أحد الرغبة في العودة إلى العمل بالطريقة التي كانت معتادة في زمن الصراعات.

مع ذلك، لا يمكننا نفي حقيقة الاشتباك بين روسيا والغرب، على أكثر من جبهة، وفي أوقات متزامنة، وهذا لن يتغير في المنظور القريب، بل ربما يتخذ منحنيات أكثر تباينًا، لأن الصدام مبني في جوهره، على أساطير الماضي، وتمليه أهداف وأفكار متضاربة. وهذا ما يجعل من إدارة الأزمات وتجنب الصراعات مسألةً أكثر صعوبة. المفهوم الأخير يمكن ملاحظته في إشكالية التوافق بين الغرب وروسيا بشأن المسائل الأكثر إلحاحًا للأمن الأوروبي، بما في ذلك الأزمة الأوكرانية، وكذلك للأمن الإقليمي كما هو الحال في مأزق سوريا. في كلتا الحالتين الروس والغرب لا يزالون يناضلون من أجل إيجاد أرضية مشتركة، وفيما يبدو، لا جدوى من المحاولة.

إن الصراعات في شرق أوروبا وأوكرانيا والانخراط العسكري في سوريا، كلها تشترك في قاسم مشترك، هو أن روسيا البوتينية تريد العودة إلى النسق التاريخي. ولذا يمكننا القول، أن روسيا تُشكّل حاليًا المتغير الأكثر حرجًا، والأصعب فهمًا، والذي يُؤثِر في البيئات الأمنية مستقبلًا، وفي مسار الاستراتيجيات الغربية. وعلينا ألا نستخف بالمؤشرات على وجود ارتيابٍ كامنٍ في الغرب، بشأن القلق حول التقييم المتفائل للاحتمالات المستقبلية في روسيا، وحول استمرارية الشكوك في قدرة التحمّل الأمريكية على المدى البعيد. لكن أن يتحول التشكيك وانعدام الثقة إلى سلوك دائم ملازم للنخبة السياسية في كلا الجانبين، فإن ذلك يُشكّل خطرًا على مسار السياسة التوافقية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد