حاولت أن أتابع كيفية إدارة أزمة إسقاط الطائرة الروسية من الجانبين التركي والروسي واتخذت منهج القراءة الحصرية ابتداء، قبل التجاوز للتحليل وسأسردها عدًا وأترك للقارئ التقييم الذاتي.

يجب التركيز قبل ذلك أنه بمجرد ما تبين أن الطائرة التي أسقطها الجيش التركي روسية عقدت الرئاسة التركية اجتماع أزمة طارئ يضم كل رؤوس صناعة القرار، وتبين لنا من خلال متابعة الأداء التركي أنه تم رسم كل السيناريوهات المحتملة وعلى ضوئها تم حصر كل أوراق الضغط المتوفرة لدى الجانب الروسي وراحت تفككها ورقة ورقة معتمدة ثلاثة أمور استراتيجية:

  • الدقة من شأنها تركيز الجهد الديبلوماسي والاستخباراتي.
  • السرعة من شأنها تحقيق السبق واكتشاف المحيط  الديبوماسي  أولاً.
  • الكثافة من شأنها الإلمام وأيضًا إرباك الروس وإغراقهم في محيط من المعلومات والتحليلات على حساب الإجراءات.

 

دعونا الآن نلقي نظرة على أهم الأدوات التي اعتمدت في إدارة الأزمة

أولاً – على مستوى الجيوعسكري

1- توجهت تركيا فور إسقاط الطائرة بتسريع إجراءات تفعيل امتيازات العضوية في حلف الناتو.

2- توجه رئيس الحكومة داوود أوغلو نحو قبرص لتفعيل العلاقات التاريخية والعسكرية قصد تفكيك ورقة تجديد الطلب الروسي لقبرص لغرض إقامة قاعدتها العسكرية لتكون أسفل بطن تركيا، ولم يصل المبعوث الروسي إلا بعده بثلاثة أيام ضمن وفد هزيل مستعينـًا بالكنيسة الأرثوذوكسية.

3- جاويش أوغلو يكثف اتصالاته بصربيا والجبل الأسود وحضر ترتيبًا عالي المستوى مستغلاً إجراءات ضم الجبل الأسود للحلف الناتو لتليين موقف بلغراد وقد أثمر هذا أول لقاء تهدئة ديبلوماسية بين  أنقرة وموسكو.

4-تفعيل التقارب التركي الأوكراني البلغاري أسفر عن غلق أجوائهما عن الطيران الروسي.

5-صدى تعاطف المسلمين التتر كان حاضرًا بقوة رغم أن تركيا لم تهمس ببنت شفة.

6-ظهور أول بوادر الحلف الاستراتيجي السني بدخول السعودية على الخط، فاستقبال الملك سلمان لرئيس كردستان العراق مسعود البارزاني بمراسيم ملكية لأول مرة سحبت فرصة بوتين استعمال ورقة أكراد العراق التي عول عليها كثيرًا.

7-بقيت ورقة تنظيم البي كي كي بين العراق وإيران وتركيا فككها وصول 1200 جندي ألماني الداعم للبشمركة وقد تعاملت تركيا مع ذلك بنوع من المرونة والحذر في حين لم تجد موسكو منفذًا إلا إيصال مساعدات لحزب الاتحاد الديمقراطي قصفته تركيا بوابل من الكثافة الإعلامية وحاصرته استخباراتيًا.

8-قامت تركيا بزعزعة الثقة العسكرية الروسية المتولدة من نشر منظومة صواريخ  إس 400 حين نشرت على حدودها بالمقابل منظومة “كورال” الإلكترونية العالية الدقة وما أربك الخبراء الروس أن كفاءتها سرية للغاية ولم يسبق الكشف عنها حتى للحلف الأطلسي.

9-أخيرًا وقعت تركيا مع الجانب الأمريكي خطة مشتركة لمراقبة حدودها السورية.

 

ثانيًا – على المستوى الجيو اقتصادي

  • ذهاب الرئيس أوردوغان إلى قطر وتوقيع 15 اتفاقية استراتيجية و1.2مليار مكعب من الغاز السائل تحسبًا لتعليق السيل التركي من روسيا عبر البحر الأسود.
  • وقد وقع رئيس الحكومة داوود أوغلو مع باكو عاصمة أذربيجان –عرق وعمق تركي- لاستكمال خط الغاز المار عبر تركيا إلى أوروبا قبل 2018.
  • أوكرانيا تتعهد بتغطية النقص الغذائي لتركيا إن حصل جراء العقوبات الروسية.

 

ثالثًا- على المستوى السياسي والإنساني

1-في الوقت الذي تتخذ روسيا إجراءات للتضييق ديبلوماسيًا على تركيا تحقق أنقرة مكاسب ديبلوماسية تاريخية أولها توقيع اتفاق إلغاء التأشيرة مع الاتحاد الأوربي 2016.

2-إلغاء التأشيرة بين تركيا وقطر.

3-التضييق الإنساني والاقتصادي عل الطلبة والمستثمرين الأتراك بروسيا قوبل بغاية التسامح مع نظرائهم الروس في تركيا مما أعطى لها غلبة واضحة على المستوى القيمي والإنساني وتصريحات أوردوغان في ذلك تاريخية.

 

رابعًا- على المستوى الإعلامي

  • لا شك أن الإعلام من الجهتين كان بأجواء الحرب الباردة، لكن ما ميز الجانب التركي هو الواقعية البسيطة مع التحدي العالي مقابل الاتهامات الحادة والأصوات الصاخبة من الجانب الروسي.
  • تابعت الإعلام الروسي بالروسية والعربية فلم يترك ما يقول من التهديد بالعقوبات الاقتصادية إلى ضرورة تصفية أوردوغان إلى تصريح نائب روسي بوجوب ضربة نووية لتركيا، في حين كان الإعلام التركي يركز على مبدأ الدفاع عن النفس وتحمل المسؤولية إذا ثبت تورط أنقرة في المزاعم الروسية.
  • تركيز الإعلام التركي على أساليب الحرب الباردة كانت كفيلة بضحض محاولات موسكو النفوذ للمعارضة التركية.
  • تركيز الإعلام التركي على نفسية بوتين وذهنيته أضعف من تأثيره حتى داخل روسيا، في المقابل تركيز الإعلام الروسي على شخصية أوردوغان زاد من شعبيته خصوصًا عند المسلمين الروس.

 

خامسًا- على المستوى الحضاري

  • تجاوب العمق العربي والتركي والكردي بصفة منقطعة النظير مع تركيا في حين يجد بوتين صعوبة حتى في إقناع الشارع الروسي.
  • بعد التقارب اليهودي الروسي عقب سقوط الطائرة الروسية نكاية في الجانب التركي من طرف اليهود توجه وفد من رئاسة الشؤون الدينية التركية إلى غزة.
  • المرجعية الإسلامية التي اتخذها أوردوغان عززت مواقفه المتمسكة بالدفاع عن النفس والمستضعفين، في حين مرجعية بوتين القيصرية البيتيرية – نسبة لبيتر الأول- جعلت تصريحاته ووجوده في سوريا تبدو محاولة يائسة لاسترجاع مجد السوفييت الضائع.

 

سادسًا –على مستوى الشخصية والكاريزما

  • أحسن الأتراك تقسيم الأدوار فكان أوردوغان يمثل الندية الثابتة لعربدة بوتين فتراه يفند، يحاور ويتحدى، أما بوتين فيسب ويتهم ويتوعد.
  • ظهر أوردوغان أكثر اتزانًا وتحكمًا بالمعلومة وتفسير الأحداث في حين ظهر بوتين مرتبكًا منفعلاً غير متثبت من المعلومة؛ فقد كرر كلمة لا أدري كثيرًا ولم يخرج وزير خارجيته لافروف عن ذلك أيضًا.
  • داوود أوغلو لعب صوت العقل والباحث عن الحقيقة ولو كانت مرة وأن طاولة الحوار هي المكان الأنسب لفض المشاكل.
  • داوود أوغلو يصرح اليوم الجمعة أن البعد النفسي للأزمة قد تجاوز الواقع ويطغى عليها البعد النفسي في إشارة لنفسية بوتين.
  • دفاع أوردوغان عن الرعايا والسياح الروس داخل تركيا المطلة على آسيا وأوروبا وأفريقيا، جعل من الشعب الروسي دائم الحنين لتركيا ومتنفسهم الحضاري والجغرافي.

 

إن ما يمكن قوله  حتى الآن أن تركيا أبلت بلاء منقطع النظير في احتواء أزمة إسقاط الطائرة الروسية وإدارتها على المستوى الديبلوماسي والإعلامي، لكن المدرسية الروسية لا زالت تعتمد على الأساليب القديمة نفسها للحرب الباردة، مما يجعلنا نتوقع أن الأمر سيتجه نحو التهدئة السياسية، لكنه سينشط استخباراتيًا، خصوصًا في وجود نفسية كالتي عند  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد