استيقظ فزعًا وهو يتصبب عرقُا وكانت أنفاسه متسارعة بشكل يصعب معه التنفس، ويعيق أي محاولة منه حتى لطلب النجدة، وتلفت حوله فوجد زوجته بجانبه بأنفاس منتظمة توحي بغرقها في نوم مريح.

وأنا له هذا النوم المريح؟ قالها في نفسه بحسرة وقام إلى نافذة غرفة نومه وأزاح ستائرها في تؤدة وحذر ووجد ما جعله يتنهد في ارتياح، إنها حديقته الخلفية لمنزله الجميل في مدينة مانشستر، وذهبت عيناه تراقب الأرجوحة التي تحركت بفعل الرياح والتي طلبتها ابنته منه الأسبوع الفائت وما تردد في استقدامها من مدينة نابولي لشهرتها في هذا النوع من الأرجوحات.

ولكن لماذا هذا الكابوس المزعج الذي يطارده هذة الأيام؟ هناك الكثير من التفاصيل المختلفة ولكن المضمون واحد

كيف بعد هذة السنوات من النجاح والاستقرار في ناديه أن يأتيه هذا الكابوس؟

في آخر أسابيع يراوده بأنه عاد لمصر لناديه القديم بعد أن فشل فشلًا ذريعًا في تجربته الاحترافية بناديه وتم الاستغناء عنه، ومرة يعود إلى ناديه القديم المقاولون العرب ويصارع معهم من أجل الهبوط، وفي حلم آخر يعود إلى نادي الأهلي بعد مفاوضات مضنية لتخفيض عقده ليتساوى مع نجم الفريق الأحمر حتى لا تحدث فرقة ما بين اللاعبين، ولكن كان أبشعهم على الإطلاق ذلك الأخير الذي استيقظ بسببه منذ ثوان أن فريق من المؤسسة العسكرية قد كشف عن وثيقة تثبت أنه لم يتم تجنيده الإجباري وأرسل له قوة أمنيه لإحضاره من بيته في نجريج.

ربما تلك الكوابيس الخيالية هي بعض مما يدور في العقل الباطن لمحمد صلاح نجمنا المحبوب المتألق في نادي ليفربول الإنجليزي، وهي السبب في شروده ونزول مستواه النسبي لما عهدناه من محمد صلاح الهداف الذي لا يكل ولا يمل من الأهداف.

محمد صلاح خرج من مصر حيث يقبع الفساد والمحسوبية والتحزب والبعد عن الإنصاف. جاء من بلد لم يصل فيها أي لاعب كرة القدم إلى نصف ما وصل اليه صلاح، وهو ما زال في منتصف عمره الرياضي، أمده الله أعمارًا مديدة، ولا زلنا نتحسس في إعلامنا المنحط هل هو أسطورة مصر في كرة القدم أم لا؟ ونقدم عليه لعيبة مع احترامي لهم كان أقصى أمانيهم أن يفوزوا على ليفربول في مبارة ودية!

هناك إرادة وأماني عديدة داخل الوسط الرياضي المصري بتحطيم صلاح. لأنه بالذي وصل إليه صلاح أصبح خطرًا على إنجازاتهم المتواضعة التي أوهمونا أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان.

الجين المصري كان مكتوبًا له في التاريخ الرياضي العالمي أنه اللاعب المصري سيأتى في الملاعب العالمية لكي يراوغ مراوغتين من بعيد، ولو أحرز هدفًا أو اثنين أضيف إلى اسمه لقب العالمي فلان الفلاني، والذي يبعد في الحقيقة عن العالمية كبعد أقرب الكواكب المأهولة بالحياة عن الأرض، وعندما جاء محمد صلاح إلى الملاعب الأوروبية ظننا أنه سيكمل مسيرة أسلافه فلم يلتفت له أحد حتى ذهب إلى تشيلسي. ولكن مع تعثره الملحوظ في تشيلسي كل منا هز رأسه وقال ها هي قصة من قصص الفشل المزمنة لدى اللاعب المصري، وكل منا عاد إلى أمنياته المحدودة ولكن لم نكن نعلم أن صلاحا لديه رأي آخر وتصور ذهني مغاير عن نفسه وعما يجب أن يكون عليه.

بعد ذلك قصة كلكم تعرفونها، ولكن الذي بدأ يحدث مع صلاح أن الشعب في هذة المرحلة شديدة السواد من حياته كشعب بدأ ينسج خيوط عباءة البطل الشعبي ويضعها على كتف صلاح.

نعم صلاح بدأ يتحول من مجرد لاعب كرة قدم إلى بطل شعبي، بطل يحال إليه المستغلق من الأمور والعصي من الأشياء لكي يجد لها حلا في غمضة عين.

أيام مباريات صلاح تجد المقاهي قد ضاقت بمرتاديها وتجد جمهورًا متعصبًا لليفربول ليس في ضواحي ليفربول نفسها.

منذ متى اكتسب نادي ليفربول هذا الزخم العاطفي عند المصريين؟ كل المصريين لم يساندوا ليفربول من قبل ولكن كانوا في كثير من الأحيان يكرهونه حتى جاء صلاح ليقلب كل هذا إلى حب جارف من أجل عيونه فقط، وتحولوا إلى ألتراس محبين له في كل حله وترحاله.

تجد حار الدعوات من أفواه المصريين كمن يدعون لأولادهم بصدق وحرارة، كل واحد من المطحونيين في الحياة وسيئي الحظ بدأت عيناه تلمع فرحًا بهذا الفتى الذي يشبه أبناءهم وبدأ يذيق الأشاوس الأوروبين مرارة أهدافه ومراوغاته وسرعته التي لا تصدق، وكنا نعتقد أن الجين المصري لم يكن يحتوي على هذا الامتياز المهم.

أصبح هناك في خلفية عقل كل مصري متعثر في الحياة إنجاز محمد صلاح، وماذا سيفعل هذا الولد الصغير سنا الكبير مقامًا في تشيلسي أو ريال مدريد؟ وكانت هذة الأسماء لا تستقيم في جملة واحدة مع أي أسم مصري أو حتى عربي، ولكن صلاح جعل المستحيل المستبعد عاديًا وممكنًا وهنا تكمن روعة هذا الفتى.

والجميل في نجاح صلاح أنه ليس فقط وليد أمنياتنا ومبالغاتنا ولكنه حقيقي وملموس ومسجل بالأرقام والشهادات الغربية من وجوه يشوبها الحمرة مثل وجوه الإمبراليين القدامى.

صلاح كانت مهمته شديدة الصعوبة والتفرد، لأنه كان يحارب صورة ذهنية عن اللاعب المصري أنه ليس اللاعب الملتزم الذي سيصنع الفارق، ولكنه في أحسن الأحوال سيكون لاعبًا متوسط الأداء والطموح لو حالفه الحظ.

والنقطة الأهم التي حاربها صلاح هي نشأته المصرية الأصيلة والإرث الكروي لأشاوس الكرة المصرية الذين غاية أملهم أن يلعبوا لأحد القطبين في مصر ويشغل منصبًا إداريًا في أحد الناديين أو يفتتح مشروعًا بفلوس الكرة وهكذا يكون قد وصل إلى قمة الهرم ولكن جعبة أحلام هذا الطفل النجريجي لم تكن مجرد أحلام طفولة، ولكن أحلام يقظة ووعي وإدراك لمحيطه وللعالم من حوله، جعلته يرى ما بعد السقف الذي رسموه له فقد كان يرى السماء برحابتها وسطوع نجومها ويعتقد اعتقادًا لا مراء فيه أنه من أهلها

وعندما كان يشاهد نهائي أبطال أوروبا للأندية يسر في نفسه أنا ساكون هناك أنا مكاني ليس هنا وفعل من أجل ذلك المستحيل.

فمن يصدق أن فتى المقاولين وهو يشاهد ليونيل ميسي يستلم جائزة أحسن لاعب في العالم، أنه في يوم في الأيام سيكون مشاركًا في هذا الحفل معه؟ ولكن محمد صلاح صدق هذا وعمل لأجله حتى زاحم أباطرة الكرة من مكان قصي لا يلد أبطالًا كروية بهذا الحجم الملهم.

محمد صلاح لا يجب أن يعامل معاملة لاعب الكرة الفذ الذي يخشاه الخصوم وفقط. هذا الكلام يقال على ميسي ورونالدو يقال على بلاد انجبت أبطالا كروية وليس مستغرب عليها أن تخرج المزيد، لأن المصنع هناك والصناعة مستقرة. ولكن يقال على محمد صلاح نجم الكرة المصرية. محمد صلاح أعاد الكشف عن مصر كرويا ووضعها على خارطة الكشافيين الأوروبين وارتفع بسقف التوقعات لما يمكن أن يكون عليه اللاعب المصري. بل أن صلاح غير الصورة النمطية للغرب عن المسلم ذي الوجه المتجهم الذي لا يمكن التعاييش معه إلى هذا الوجه البشوش الذي يسجد في أرض ملعب في كل مرة يحرز فيها هدفًا. والإنجليز بجلالة قدرهم يغنون أغنيته الشهيرة التي لا تنم فقط عن تقبل ولكن عن حب وامتنان وتقدير.

محمد صلاح عندما يكون في كنف ليفربول لمدة طويلة يكون صلاح الذي عهدناه ونراه في الملعب مرتاحًا بلغة الكرة لا يسعى لإثبات شيء لأنه «أنهى امتحانه بدري وخرج قبل نص الوقت كمان».

ولكن صلاح ككل الأبطال لديه نقطة ضعف أتذكرون الشخصية الأسطورية (سوبر مان)؟ ماذا كانت نقطة ضعف (سوبرمان)؟ هي كوكبه كلما اقترب من كوكبه أو أي قطعة منه خفت قوته وضاعت هيبته حتى في أحد الأجزاء تم قتله بجزء من هذا الكوكب.

واضح أن نقطة ضعف صلاح أيضًا بلده كلما اقترب منها قل توهجه وسلبوا منه قوته لأنهم قوم لا يجد الحلم سبيلًا إلى قلوبهم، فقرروا إفساد أحلام الآخريين وأنا أتكلم عن المسئولين والإداريين وبعض اللاعبين القدامى الذين يحلمون ليلًا ونهارًا بأن ينتهي صداع تألق صلاح ليعودوا مرة أخرى إلى المستنقع وتنحسر الأضواء عنهم حتى يستبدوا بالطابونة، لأن بوجود صلاح العالم كله يتابع ما يفعلون ويصبح فسادهم عرضة للكشف والمساءلة. ولكن كل يوم يثبت لنا صلاح إن الدنيا كلها يمكن أن يتم تطويعها لأحلامك إذا كنت تؤمن بنفسك حق الإيمان وتفعل ما يجب عليك أن تفعله. فعلى ما أعتقد أن صلاح سيهزم كل عراقيل بلده وسينتصر على كوكبه الذي يحاول مرارا وتكرارا أن يعرقل مسيرته وسيرتد كيدهم في نحورهم وسيظل صلاح «السوبر مان» المصري الذي لا تجد الهزيمة واليأس طريقًا إلى أحلامه ومسيرته.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد