إنّ من يتفقد في أحوال الناس ويهمه أن تنصلح وتستقيم بصدق يجب أن يكون قادرًا على تعيين الصالح والفاسد، ورؤية الأولويات بشكل صحيح قبل أن ينتقل لدائرة الفعل. فسلامة القصد لا تغني عن سلامة المسلك، بل يجب أن تكون الدافع لمعرفته والتزامه.
وكثير من أصحاب النوايا الحسنة ومحبو الخير تنقصهم تلك المعرفة، فيتصرفون بعفوية وارتجال، بدءًا من نظرة غير شاملة واعتمادًا على نصوص ومفاهيم جزئية لا على فقه جامع معاصر، ينطلقون تحت عنوان محاربة البدع لتصحيح ما يرد من ألفاظ على ألسنة الناس وما يأتون به من مظاهر يشتبه في مخالفتها للعقيدة، والدين أرحب من ذلك وأعمق، وكذلك الإشكالات التي تواجهه. ذلك ينطبق حتى إذا كان كلامنا عن القيم والمبادئ التي توافق العرف والفطرة السليمة.
إننا في عصر مختلف عن ذلك العصر الذي كان فيه المجتمع متماسكًا ممتلكًا لزمام الأمور، تعصف به أزمات ولكنه يتغلّب عليها ويكمل في جسارة وإصرار. حينها كان الجوهر سليمًا مصونًا لم يصبه العطب. لا نستطيع أن نقول نفس الوصف عن حياتنا المعاصرة، فقد تفككت أوصال المجتمع، وصار التواجد فيه جيرة لا تحقق التكامل بالضرورة وكثيرًا ما تفضي إلى النزاع. صار هم المرء الأساسي نفسه ودائرته المغلقة، وبقيت الكثير من المظاهر المرتبطة بالدين أو القيم، مع خلو المظهر من المضمون، مخلفًا شكلًا فلكلوريا تراثيًا متقادمًا لكل ما هو قيّم. انفكاك كارثي بين المظهر: سواءً كان كلامًا أو ملبسًا أو عنوانًا… إلخ، وبين المعنى والفعل.
يقول اللسان إنّ الإسلام أمر بكذا وعلينا أن نلتزمه، ويقول الفعل أن هذا الـ«كذا» عبء لا يحتمل، فهو مرفوض عملًا ومعطّل. «إننا يجب أن نضحي لأجل كذا»، ولكننا نتكلم كثيرا عن التضحية إيمانًا من عقولنا بقيمتها وضرورتها للوصول لغاية سامية، لكن قلوبنا ترفضها وتنفر منها.
هل لنا أن نتناول بجديّة واختصار مسألة الجبر والاختيار، وهل لنا أن نصل في شأنها لقرار قاطع حاسم؟
لقد وجدت في كتاب لابن القيم بعض الكلمات القيمة لمن أراد حقًّا وصدقًا أن ينقل رسالة مهمة لغير المختصين في طلب العلم. رسالة تخاطب العقل المدرك والقلب المنفّذ معًا. إنها رسالة قيمة تخص موضوعي القدر والرزق معا، واللذان كثيرًا ما يفهمان بشكل خاطئ مما يعود بأشد الضرر على عزيمة الإنسان وسلامة سعيه في شتى دروب الحياة؛ فرأيت ضرورة إذاعتها.
قسّم العلّامة بن قيّم الجوزية الناس من حيث ربطهم بين القدر والإرادة لقسمين رئيسين:
قسم يؤمن بالقدر ويقدم الإرادة.
وقسم آخر بائس بعضه من بعض، يعارض بين قدر الله وأمره، وهو أربع فرق:
الفرقة الأولى ينكرون القدر حفاظًا على نفاذية أمر الله وإرادة الإنسان، وإنما الأمر فرع من القدر. فمنهجهم متناقض.
والفرقة الثانية دحضت الأمر محتجة بالقدر، يقول العلّامة فيهم: «هؤلاء من أكفر الخلق وهم الذين حكى الله قولهم في القرآن إذ قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء)… وقالوا أيضًا: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه). فجعلهم الله سبحانه وتعالى مكذّبين خارصين ليس لهم علم، وأخبر أنهم في ضلال مبين».
أما الفرقة الثالثة فيقول فيهم «فرقة دارت مع القدر، فسارت بسيره، ونزلت بنزوله، ودانت به، ولم تبال وافق الأمرَ – أمر الله – أم خالفه، فالحلال ما حل بيدها قدَرًا، والحرام ما حرمتْه قدَرًا، وهم مع من غلب قدَرًا من مسلم أو كافر، برًا كان أو فاجرًا».
والفرقة الرابعة «وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر – أمر الله – ولم تدِن به ولكنها استرسلت معه، ولم تحكّم عليه الأمر فعجزت عن دفع القدر بالقدَر اتباعًا للأمر، وهُم بين عاجزٍ وعاصٍ لله».
ويختم العلّامة هذا التفصيل المحكم فيقول: “وهؤلاء الفرق كلهم مؤتمّون – أي يتبعون إمامهم – بشيخهم إبليس، فإنه قدّم القدر على الأمر وعارضه به، وقال «رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين»، وقال «فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم». فردّ أمر الله بقدره، واحتج على الله بالقدر. وانقسم أتباعه أربع فرق كما رأيت، فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالًا كونيًّا. فالقدَر دينهم.
فبعث الله الرسل بالأمر وأمرهم أن يحاربوا أهل القدر، وشرع لهم من «أمره» سُفنًا وأمرهم أن يركبوا فيها هم وأتباعهم في بحر القدر، وخص بالنجاة من ركبها. فالرسل دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر وتحكيم الأمر عليه، وإبليس وأتباعه دينهم القدر ودفع الأمر به(1)، أي تعطيل أمر الله النافذ بإرادة الإنسان.
وعلى ضوء هذا التوضيح يجب أن نفهم {لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها} بأن الله الأعلمَ بقدرات عباده وبما يصلح به حالهم، إذا كلف الإنسان أو المجتمع بشيء فإن هذا الشيء في وسع المكلّف. وألا نتمادى في التماس الأعذار لنسقط التكليف، فيحقّ علينا بقاء الخلل وتوطنّه وتشعّبه. بل نسعى بكل طاقتنا لأداء الواجب فنستحق الاحترام والرحمة.
على ضوئه لا ينبغي أن نستسلم للواقع ونقول: هذا قدرنا! أو نتمادى في اعتناق فساد العقل والذوق ونقول عن القبح أنه هو الشيء الطبيعي والمعتاد، وأن محاولة الانفصال والابتعاد عنه والسمو بالنفس والمجتمع «مثالية مهلكة».
يجب أيضًا ألا نخلط بين ما هو في المقدّرات المحال علينا تغييرها، وما هو في أيدي البشر تتلاعب به إراداتهم، ثم تأتي النتيجة في النهاية طبقًا للمسببات من أفعال بشرية وسنن إلهية. لا أحد يختار أباه وأمه، ولا طريقة تربيته وظروف نشأته، ولا خلقته وسلامة بنيانه من المشاكل الوراثية والأمراض المزمنة، لكن ما أن يصبح الإنسان ناضجًا فإنه بإمكانه بالعلم والإرادة أن يشق لنفسه طريقه الخاص، قد يدعمه المجتمع أو يعرقله، لكن أليس هذا المجتمع أيضًا مجموع إرادات نابعة عن رؤية معينة للحياة، ما غلب منها على الطابع العام صنع توجه هذا المجتمع. إذًن تصحيح الفرد لرؤيته ونهوضه بنفسه لن يكفي أو ينفع كثيرًا إذا عارضته الكثير من الإرادات الفاسدة. لا بد من حركة علمية وثورة فكرية ثقافية عظمى.
ماذا عن «الرزق»؟ هو لا يختلف في شيء عما فات. قد تؤتى مزايا وراثية مما ليس لبشر دخل فيها، لكن الذي قدر للناس الرزق في النظم الشيوعية هو الذي قدره لهم في الرأسمالية وفي النظم الإقطاعية وحتى تحت ظروف الاحتلال، فالله يرزق على العموم، وكما يقول غاندي: «في الأرض ما يكفي كل احتياجات البشر ولكن كل ما في الأرض لا يكفي لإشباع أطماعهم»، وهو الأمر الذي أثبتته الإحصائيات(2).
فقبل أن نقول «هذا رزق فلان» يجب أن نبحث في عدالة التوزيع والاستحواذ على الأملاك، التي هي ناتجة عن نظام بشري مبني على فلسفة معينة ورؤية معينة، قد لا تحقق – أو تهدف للأساس لتحقيق – أو تضادّ مقاصد الشرع والهدف الأعظم لإرسال الرسل: ليقوم الناس بالقسط، أي يعدلوا في شؤونهم العامة والخاصة، فتقل مساحات الظلام وبؤر الفساد في حياتهم، وتتلاشى تلك الموانع التي تعيقهم عن استقبال رزق الله من الأمان والازدهار والرفعة في صورها الأكمل الأشمل.
كذلك الأمر في الزواج، فالأرزاق موجودة، لكن عادات وتقاليد بالية، وتصورات وأفكار خاطئة عن الواقع والدين، ونظرة للحياة تختزل ضمانات سعادة الإنسان وكفاءته في المال والأملاك، وسوء توزيع في هذه الأموال، بالإضافة للفردية التي تنفر البعض من الزواج وتحمل المسؤولية، وتتسبب في فشل زيجات البعض الآخر، كل هذا جعل الزواج أمرًا صعبًا وأعطاه أكبر بكثير من حجمه في الحياة. ثم نعلّق الأمر بعد كل هذا «بالنصيب»!
مزيد من الصلاة والتصدق والصوم والاجتهاد «في عملك» سيزكي الأنفس فعلا، لكنه لن يفعل شيئا بخصوص فروض الكفاية الكثيرة المتروكة، التي متى أديت حق الأداء انتفت المسببات التي بها يستمر بقاء الخلل، إذ أننا نجد الارتجال حيث يكون الاحتراف مطلوبًا، والمجهود الفردي حيث يكون المجهود الجماعي المنظم مطلوبًا.. وهكذا. صدق رسول الله إذ قال «وإن دين الله عزّ وجلّ لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه(3)».
إن الله لا يلعب النرد بالكون، بل نحن – البشر وليس الإله – من نفعل (بما في نطاق تأثيرنا منه بالطبع)، ونترك البعض يحولون حياتنا لكازينو قمار مكسبهم – المادي – فيه مضمون ومكسب غيرهم مرهون بالحظ ورضا أصحاب الكازينو؛ الذي يحدد في أي المستويات ستلعب وما سقف ما هو مسموح لك بالوصول إليه!
نحن من نحب أن نعطي تفسيرات «عميقة» لتخاذلنا وتواكلنا في مواجهة ما يحيط بنا من تحديات. نحن من نحب أن نستقبل فقط ما نحب دون أن نسأل أنفسنا من أين أتى وكيف، حتى نحافظ على المَعين من أن ينضب. نحن من نصّبنا الواقع – أو القدر – حكمًا على الأمر الإلهي، ثم لُمنا القدر ضمنيًا، ورضينا به شكليًا. وبهذا انتقلنا من «إذا أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» إلى «إذا أصابته سراء فرح بما أوتي فكان شرًّا له، وإذا أصابته ضراء رضي بالهزيمة فكان شرًّا له».
لهذا فالبداية تكون بالدعاء: «اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا» والعمل بمقتضاه كما أشارت الآية «كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست