السكنى بجانب مدرسة ابتدائية حكومية بلاء – لا تكفيه هذه الكلمة وصف أهواله – قد يكون به -من سنة الله في البلاء – نعيم يكمن في التمتع بجمال النسمات السابحة في فناء المدرسة الممتد ليلًا وأوقات الإجازات، لكن فيما عدا ذلك يظل بلاء لا ذروة له فكله ذروة.

يبدأ في السادسة والنصف من كل صباح بالطابور، حين يتحامل الطفل على نفسه وينازعها رغبتها في النوم كي يلحق بالطابور على وقته، فهو إن لم يلحق سيتخلف بعد الطابور ليجمع قمامة الفناء المتناثرة منذ الأمس عقابًا على تأخره وقد يختتم جمع القمامة بالضرب عدة مرات تتفاوت حسب كمية القمامة المجمعة، ولا يرضى هذا العقاب طالب أبدًا، ولست أدري هل هذا طابور مدرسة أم طابور ثكنة عسكرية ليخرج الأطفال من بيوتهم هائمين على وجوههم، سكارى، تركوا أدمغتهم بين الألحفة، لا تكاد عيونهم تفتح حتى تغلق مرة أخرى من غلبة النعاس؛ كي ينجوا من ذلك العقاب، ولا أنسى كيف صدمت أحدهم بدراجتي وهو يعبر الطريق؛ إذ عبر الطريق فجأة معطيًا ظهره للسيارات، ولا أحسبه كان في وعيه حين عبر الطريق بهذا الشكل، مؤكد أنه نسي دماغه على الوسادة ذلك الصباح.

وليت شعري ما الانضباط والالتزام في هذا الطابور المذل، الإنجليز والفرنسيون أنفسهم الذين أنشأوا ذلك النظام العسكري للمدارس منذ قرنين، أصبحوا من أشد المعادين له، إذ إن هؤلاء أطفال وليسوا جنودًا، ولا ينتظر منهم أن يصيروا جنودًا.

كما أنه ليس من العقل أن تنتظر من هذا الإذلال غرس الانضباط والالتزام في طلاب يدخل عليهم الأستاذ تتقدمه بطنه ذات المترين، يمسك عصاه الغليظة بيد وكوب الشاي والسيجارة باليد الأخرى، فيهوي بعصاه على أحد المقاعد مشيرًا لأحد الطلاب أن يقف، فيهب فيه بصوته الغليظ ونبرته البلهاء قائلًا: لم لا تأخذ درسًا عندي يا ابن كذا؟ لا تأتي إلى آخر العام باكيًا إن وجدت نفسك راسبًا في مادتي، ثم يلتفت لبقية الطلاب محذرًا: أحسبكم وعيتم جيدًا ما قلت، ثم يعود إلى السبورة فيكتب عنوان الدرس وسطرين من الدرس تحته سريعًا كي يتسنى له احتساء الشاي قبل أن يبرد، وتنتهي الحصة لتأتي أختها فيتكرر ذلك المشهد القميء حتى نهاية اليوم مع اختلاف المدرسين، لا عذرًا، ليسوا مدرسين، بل عصابة تبتز الطلاب بالدرجات لأجل الدروس، لا يعلمون ولا يربون، بل يتاجرون بالدرجات، إلا من رحم الله من بقية قليلة، فمن الأحمق الذي ينتظر من تلك العصابة غرس الانضباط بذلك الطابور المذل في الطلاب، وهم لا يؤدون عشر العشر من وظيفتهم التي يتقاضون عليها أجرًا، بل يضادونها ويفسدونها.

ولست أعارض فكرة أداء الطلاب لبعض التمارين الرياضية البسيطة قبل دخول الفصل، لتنشيط أجسادهم وتنبيه عقولهم، لكن ما أعارضه هو أن تتحول أداة لتحسين تحصيل الطلاب إلى غاية، بل إلى شيء مقدس لا تتخيل المدرسة بدونه ويعاقب الطلاب بسببه أشد العقاب، رغم أنها قد تكون أداة فاسدة لا تحقق المرجو منها، بل تفسد على الطلاب تحصيلهم، ولا أذكر أني كنت أحضر الطابور في حياتي الدراسية إلا قليلًا جدًا حتى أنني في المرحلة الثانوية لم أحضر الطابور سوى ثلاث مرات فقط، ولا أعتقد أن هذا أثر على نشاطي وتحصيلي أثناء اليوم الدراسي أبدًا، إنما كنت آخذ راحتي في النوم وأذهب إلى المدرسة وقد طلقت النوم ثلاثًا على عكس كثير من الطلاب، حتى وإن شعرت بالنعاس أحيانًا كان حبي للتعلم ينازعه ليحفظ تنبهي وتركيزي في الحصص، ولايزال حبي للتعلم هو ما يدفعني للالتزام بمواعيد الكلية، حيث لا ضرب، ولا ترويع، ولا إذاعة مدرسية.

الإذاعة المدرسية

معزوفة من النشاز وجريمة في حق اللغة والدين ومصطلح الإذاعة ترتكب بأقبح أشكال السفور كل صباح: من أخطاء فادحة في تلاوة القرآن والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، والحكم البديعة من ظهر كتب الوزارة، والمعلومات الغريبة المثيرة بلا رائحة الحقيقة، والنطق الخاطئ لكل شيء وأي شيء، ويكون حظ الطلاب أغبر إن خصصت فقرة للنشيد؛ إذ تغنى فيها بضعة كلمات مكررة غير مفهومة منزوعة اللحن أو أغنية وطنية ركيكة ولا فرق.

ودعونا نتشارك الحيرة؛ ما فائدة هذا العبث كل صباح، وفيم الجهد والتظاهر بأن هذه التمثيلية الرخيصة إذاعة مدرسية، ألأننا وجدنا عليها آباءنا، ربما، لكن أقلها يجب أن ندري لماذا وجدنا عليها آباءنا، وأتحداكم إن كان أي من أولئك الببغاوات عازفي النشاز الصباحي يدرون غرضًا واحدًا لما يفعلون، ولست ألومهم فليسوا إلا أطفالًا عديمي الحيلة ولدوا في مجتمع متقولب، فلا يملكون فكرا ولا حركة خارج قوالبهم التي أسرهم فيها المجتمع، وهنا أصل مشكلتنا المجتمعية بأسرها لا الطابور والإذاعة فقط، فالكل يسير على النمط الذي رسم له ولا يخرج عن إطار قالبه حتى صار المصريون كالزومبي – الموتى الأحياء – تعرفونهم أولئك الذين لا يدرون سوى بضع كلمات وحركات يكررونها بلا تغيير، ولا تفكير، ولا تجديد، نعم! نحن في تمثيلية مملة يؤديها ممثلون شديدو الالتزام بالنص فلا يخرجون عنه بحرف، والنتيجة دائمًا صفر، فمتى كان التمثيل يغير في الواقع شيئًا، لذا فليس لي هنا أن أغفل ذكر أولئك الأبطال الأحرار – بلا مبالغة – من كسروا القوالب وأطلقوا لأرواحهم العنان الذي ما خلقهم به الله، بل ألجمهم به المجتمع، فوضعوا بصماتهم جلية كبيرة في حياتنا لا تلتمس الأفق ببصرك إلا أعماك بريقها، وكان من أولئك العظماء، مدرس؛ لا نمطي لا معتاد، بل اعتبره المدرسون الآخرون لا طبيعي، كان أستاذ اللغة العربية والقرآن، خريج درة العلوم – دار العلوم – كان هذا الأستاذ يدري جيدًا ماذا يفعل في المدرسة كان يأتي كل صباح وهو الوحيد الذي يعلم لماذا أتى لم يكن يمثل كالبقية، كان الوحيد الذي يدري كنه الإذاعة المدرسية، كانت في نظره أداة إبداعية للتكوين المعرفي والاجتماعي للتلاميذ بصورة تفوق الدروس التقليدية، فهي في تأثيرها على مجتمع الطابور المدرسي كوسائل الإعلام المرئية والمسموعة في تأثيرها على المجتمع في إثارة عواطفهم الإنسانية وتوسيع أفق خيالهم ما يجعل استيعابهم في أقصى درجاته، فكانت الإذاعة تخرج تحت إشرافه أعذب من غناء الحور، بآيات سهلة مرتلة مجودة، وحديث يتبعه شرحه، وحكمة من أعذب مساقط الفطنة، وكلمة تربوية تكمل معاني الآيات والحديث والحكمة بشرح سهل طيب مع فقرة علمية شيقة تفغر لها أفواه الطلاب، كانت أداة للتربية والتهذيب، أداة للتأثير، لخلق الرأي، لتحريك الفكر، كانت إذاعة خارجة عن الصف في نظر الجميع، لكن في نظر الحقيقة كانت عودة إلى الأصل، خروجًا عن الأنماط، كسرًا للقوالب وتحطيمًا للأصنام.

وبالطبع لا يجب أن نغفل النسخة القذرة من الإذاعة المدرسية؛ نسخة الإعلام المصري ، وأكتفي من ذكرها بما شهدته في مدرستي الثانوية في المرة الوحيدة التي حضرت فيها الطابور في الصف الثاني الثانوي حين خرج أحد الطلاب في فقرة الأخبار ضمن الإذاعة يتهم بعض طلاب المدرسة بالإرهاب تصديقًا على ما كتبته إحدى الصحف في إطار حديثها عن مظاهرات خرجت من جامعة القاهرة شارك فيها طلاب من السعيدية، كم شعرت بالأسى على ذلك الولد؛ إذ يتهم زملاءه بتهمة كهذه إرضاء لإدارة المدرسة العسكرية، وتخيلت كيف سيكون مستقبله الحافل بأنغام الطبول على كل مائدة ظنًا منه بأنها وطنية، لكننا جميعًا نعرف ما هي، وليست هذه الصورة إلا انعكاسًا للمسار الوطني – يقولون – الذي يتخذه مجتمعنا في الآونة الأخيرة والذي يتجلى أكثر ما يتجلى في تحية العلم وترديد النشيد الوطني.

بديعة تهيج القلوب هي كلمات الرافعي.

اسلمي يا مصر إنني الفدا … ذي يدي إن مدت الدنيا يدا
أبدا لن تستكيني أبدًا … إنني أرجو مع اليوم غدًا
ومعي قلبي وعزمي للجهاد … ولقلبي أنت بعد الدين دين
لكي يا مصر السلامة … وسلاما يا بلادي
إن رمى الدهر سهامه … ألتقيها بفؤادي
واسلمي في كل حين

لكن ما هيج قلبي حينها لم يكن كلمات الرافعي، بل أبي الذي كان يردد النشيد لأخي الصغير كي يحفظه ضمن مقرره الدراسي، فلم ترسم الكلمات في ذهني صورة الوطن الجريح الذي يهب ابنه البار مفديا إياه بروحه، بل صورة الأب الكسير الذي سيق ولده أمام عينيه مكبلًا إلى حيث السجن والتعذيب لا لشيء، إلا أنه يحب وطنه والتهمة! معاداة الوطن، أي وطن؟ الوطن الذي هو الدولة وأصحابها؟ أم الوطن الذي قصده الشعراء في أناشيدهم التي يرددها الأطفال كالببغاوات كل يوم في طابور الصباح؟ مؤكد ليس هذا الوطن؛ وإلا لما فرضت هذه الأناشيد، ونال ترديدها في الصباح تلك الأهمية منقطعة النظير حتى فرضت في الجامعات من بعد المدارس، بل هو تلك الكلمة الصماء ذات الواو والطاء والنون وقطعة القماش الملونة التي تعبث بها الريح وقتما تشاء يختبئ تحتهما عصابة احتكرت كل ما يقع تحت هذه الحروف الثلاث، هذا هو الوطن الذي يراد للأطفال أن يسبحوا بحمده كل صباح ويحيوا علمه بفخر قبل الانصراف، هذا هو القالب الذي يراد للأطفال أن يكبروا داخله حتى إذا ما كبروا صاروا وطنيين يسمعون الأناشيد الوطنية وتسيل لها دموعهم ويقفون بفخر رافعين هاماتهم أمام جلال علم وطنهم وهو يميل مع الريح، وفي المقابل يسرقون ويغشون ويرتكبون في حق الوطن وأبنائه كل كبيرة، ويحتفظون بوطنيتهم لا شك فهم لم يرتكبوا شيئًا في حق الوطن (النشيد والعلم وأصحاب الدولة من خلفهما)، ومن يحاول العودة للأصل فهو خارج عن الصف، خارج عن الوطنية، معاد للوطن وإن سالت دماؤه لأجله.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد