نحن جزء من هذا الكون، نحن بداخل هذا الكون، الكون بداخلنا
نيل ديجراس تايسون
ربما قد تكون هذه هي أفضل عبارة لوصف مكانتنا في هذا الكون العظيم، فلقد شرحت في مقالة سابقة: أبناء النجوم. كيف أن الذرات التي تشكل الحياة على الأرض وتشكل جسم الإنسان يمكن تتبعها إلى نقطة البداية التي انطلقت منها. وبالبداية أعني النجوم التي كانت غير مستقرة في سنواتها الأخيرة، تم انهارت وانفجرت ناشرة أحشائها الغنية عبر الكون، أحشاء مصنوعة من الكربون والنيتروجين والأوكسيجين وكل المكونات الأساسية للحياة نفسها، نعم، هكذا قام العلم بتفسير نشأة الحياة على هذا الكون بعيدًا كل البعد عن كل التفسيرات الدينية.
منذ تطور وعي الكائن البشري والإنسان بدأ يبحث ويطرح أسئلة وجودية لكي يفسر بها وجوده، وإذا بحثنا في التاريخ حول الأشياء التي كانت مجهولة سابقًا، سنجد أن الأديان بمختلف معتقداتها لعبت دور كبير في تفسير العديد من الظواهر التي عجز الإنسان آنذاك عن فهمها، فإذا قرأنا عن الميثولوجيا الإغريقية سنجد إن الإغريق كانت لديهم تفسيرات غريبة لبعض الظواهر الطبيعية والكونية، فالبرغم من أننا نسميها أساطير وخرافات، لكن في الحقيقة هذه الميثولوجيا كنت بمثابة دين عندهم، فرؤية العواصف عند الإغريق يعني أن الإله بوسيدون غاضب ورؤية الرعد والبرق يعني أن أبا الآلهة والبشر زيوس غاضب، هذه هي التفسيرات التي قدمها الإغريق في ذلك العصر. أما الميثولوجيا المصرية (الفرعونية) كانت ترى أن الهدف من الموت هو الوصول إلى الحياة الأبدية في العالم الآخر، وكان الفراعنة يرون أن الميت مباشرة بعد موته يقابل الإله أوزوريس و42 مساعد ليحاسب عن ما قام به في حياته، والنظرة الفرعونية للموت كذلك تتخلف بشكل كبير عن نظرة البابليين، فكل حضارة وثقافة فسرت الحياة وظواهرها بطريقتها الخاصة، لكن مع تطور عقل البشري وتطور الإنسان في المجال العلمي بدأت الناس تميز بين ما هو خرافة وما هو حقيقة، فمع العلم عرف الإنسان أن ما كان يعتبره الإغريق غضب آلهة وما كان يعتبره البشر سابقًا بزئير الآلهة هو في الحقيقة نتيجة ازدياد مفاجئ في ضغط ودرجة الحرارة في وسط الهواء نتيجة لحدوث البرق. ما نعرفه الآن والأشياء التي نسميها حقائق، كنا سابقًا نجهلها وكنا نعطي تفاسير قد تبدو حاليًا غبية، لكن في ذلك العصر كان لا بد من وجود تفسير ما لتلك الظواهر.
الإنسان سابقًا كان ينظر إلى النجوم التي تتلألأ في الليل ويستغرب ويتساءل عن سبب وجودها هناك، ولماذا لا تسقط عليهم، تم جاءت الأديان لتعطي بعض التفسيرات التي كان تبدو لهم منطقية في ذلك الوقت، فالأديان أخبرت الناس أن الإله خلق الأرض وأحاطها بالسماء والنجوم متبثة عليها، أي أن الكون ليس شاسع كما نعرفه الآن، وكان هذا التفسير مقبولًا وكافيًا عند المجتمعات البدائية آنذاك، وكانوا يعتبرون أن النجوم ستسقط من مواقعها المفترضة في آخر الزمان، لكن بعد مرور الزمن وباستخدام المنهج العلمي عرفنا أن النجوم ليست مثبتة على السماء وأنها ليست قريبة من الأرض، وبدأنا شيئًا فشيئًا نملك لمحة عن الحجم الحقيقي للكون، وباستخدام التلسكوب في ما بعد، رأينا النجوم التي تدور حول كوكب المشتري، وكانت هذه الملاحظة وحدها كافية لتثبت لنا أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الأرض ليست الكوكب الوحيد في الكون، وعرفنا أن بعض تلك النقط البيضاء التي نراها كل ليلة في السماء هي في الحقيقة كواكب أخرى تدور حولها نجوم مثل نجمنا. ومع هذا التقدم جاء الطب لكي يلغي القرابين الإلهية واكتشفنا العلاج والشفاء الحقيقي، وجاءت الكيمياء لتنير ظلام جهل العصور الوسطى، ومع تطور علم الفلك شاهدنا ولادة وموت النجوم وكشفنا أسرار الكون.
وليس هذا فقط، فالإنسان أدرك في ما بعد أن بهذا التفكير سنفهم كوننا وأنفسنا وعالمنا وهي الطريقة الأمثل لنتحرر من الخرافة وبهذا المنهج سنحصل على الأجوبة المنطقية التي لطالما بحثنا عنها، وهذه الطريقة هي ما تسمى الآن بالعلم وهي التي كان يفتقدها أجدادنا لكي يفهموا الظواهر الكونية، والتي بدونها لم نكن لنتطور ونتقدم، ومازال الإنسان يحاول جاهدًا لكي يكتشف الأسرار الأخرى التي مازالت غامضة، ربما ليس الآن لكن حتما سيجيبنا العلم عن باقي الأسرار، وهذه بدون أدنى شك هي الملحمة البشرية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست