إن أشد ما آلم الأمة الإسلامية وأوجعها وأصابها في مقتل، وجعلها ضعيفة وهشة وغير قوية في المواجهة، هو قتل ثروتها الفكرية، وإفناء عقولها الشابة، فلقد علم الشرق والغرب أن قوة المسلمين تكمن في شيئين اثنين وهما «تقديس العلم ورفع شأن العلماء».
ولم يكن مستغربًا لما اكتسح المغول العالم الإسلامي ومروا على كبرى حواضره الثقافية أول شيء قاموا به هو قتل العلماء وتدمير المكتبات، فتم رمي كل ما كان موجودًا بمكتبة بغداد في نهري دجلة والفرات لعمل جسر يعبر عليه الجيش المغولي حتى قال المؤرخون إن الماء تحولت مياهه إلى الأزرق الغامق بسبب لون المداد الذي كتبت به الكتب.
وهكذا تمضي السنون وتمر الأيام وأعداء الإسلام يتأكدون أن سر نجاح وعظمة الأمة الإسلامية في أن يطبق المسلمين أول كلمة لأول آية في كتاب الله وهي (اقرأ).
الأدهى والأمر من ذلك المشهد المذري الذي وصلت إليه الأمة أن من يطالع تاريخ المسلمين يجدهم أنهم بدأوا تدوين وتقعيد العلوم لأجل حفظ العقيدة الصفوة كما نزل بها الوحي الأمين على قلب سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فظهرت علوم الحديث بفروعها، والفقه بفروعه، والسير والمغازي، والنحو، والصرف، والبلاغة، بل لما انتهى العلماء من الإلمام بكافة العلوم الشرعية كتبوا في ترجمات العلماء، والمحدثين، وطلابهم، وصفاتهم الخلقية، والأخلاقية، ودرجاتهم العقلية في حفظ المتون والأسانيد، وأدق تفاصيل حياتهم، وحتى من تشابه معهم في الأسماء في عصورهم، ولم يتركوا مجالًا للتدليس والكذب عليهم.
فكتب التراث الإسلامي، التي يعلَن عليها الحرب صباح مساء لم تترك شاردة ولا واردة عن الملة والدين إلا وذكرتها، حتى قيل إن الإمام الشافي رحمه الله أفتى في مسائل افتراضية لم تقع وقد وقعت في عصرنا الحالي واستفادت الأمة منها.
ثم لما وصلت الرفاهية الفكرية أوجها في ألمع عصور الدولة الإسلامية في عصر بني العباس كتبوا حتى عن الأغاني والموسيقي وأدواتها، وسمي علم كامل (علم الحيل) الميكانيكا لاحقًا بالاسم الذي سموه وظل لقرون، وكتبوا في الفلك والرياضيات، ثم وصل بعض المؤلفين إلى تدوين أخبار الحمقة والمغفلين والشطار (النصابين)، وحتى أخبار اللصوص.
ثم لما اضمحلت الحركة العلمية مع سقوط دولة بني عثمان وتمزيق ملك الخلافة الإسلامية بين الدول الصليبية، عمد الصليبيون إلى قتل أي عالم، أو داعية، أو مصلح، أو صاحب فكرة، أو رؤية، أو مشروع نهضوي إصلاحي، أو صاحب أمل في جمع شتات المسلمين، ولم شعثهم في دولة واحدة كما كان قبل العام 1923، والقضاء عليه وعلى مشروعه، بل السيطرة عليه لضمان عدم رجوع فكرة الخلافة ووحدة المسلمين لئلا يهيمن الإسلام على العالم من جديد.
دائمًا ما كانت قوى الغزو والاحتلال الصهيو-صليبي منتبهة وموجودة بكثافة على الأرض من خلال الجواسيس والعملاء، وفي انتظار أي عقل إسلامي ناضج ومتنور له رؤية ومشروع حضاري متميز إلا وقضت عليه.
حتى العلماء الذين لم ترتبط أسماؤهم بالفكرة الإسلامية أو بتياراته المختلفة، ونهضوا في مجال يخص الابتكار العلمي وتصنيع قوى الردع محليًا، كانوا يقتلون، ولو كلف الأمر أن تكشف أيادي أجهزة المخابرات الغربية، والموساد، فكانوا يقتلون وبلا هوادة.
إن الاغتيال المادي لعلماء وحكام المسلمين المتميزين لم يتوقف على مدار التاريخ، وحتى بسقوط الدولة العثمانية، بل امتد حتى وقتنا الحاضر الذي لا حول لنا فيه ولا قوة.
فبدلًا عن أن يستغل حكام المسلمين العقول الوطنية من العلماء والدعاة في نهضة الأمة واستعادة مجدها، بل نجدهم يلقون بهم في غياهب السجون ليتعرضوا لصنوف العذاب والقتل والموت البطيء المتعمد بالإهمال والتقصير في معاملة نوابغ الأمة حتى كالمجرمين العاديين.
إن استهداف العقل المسلم كان هدفًا للغرب للقضاء على حركة الحضارة الإسلامية التي هيمنت على العالم، ولقد بلغ بالحقد على أمة الإسلام أن يتم قتل أي عقل مسلم أراد ترميم بيت المسلمين المتصدع كما حدث من ذي قبل عندما تدخلت المخابرات البريطانية بصورة فجة، واغتالت خليفة المسلمين السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني رحمه الله؛ لأنه أراد النهوض بدولة الخلافة، وإنشاء أسطول بحري قوي يعيد للمسلمين سيطرتهم على بحار العالم فقامت بقتله، ثم دبر الغرب بالتعاون مع اليهود لخلع عبد الحميد الثاني الذي أراد تكملة المشوار.
ولم ينته الأمر عند ذلك، بل بعد أفول نجم الدولة العثمانية، نالت يد الغدر من الأستاذ حسن البنا، وقتلته بدم بارد، ذلك الرجل الذي جيش جيشًا لقتال الإنجليز بمصر، واليهود بفلسطين، وجمع الشباب، وكتلهم على دعوة الإسلام، ولما أراد أن يكمل مشواره الأستاذ سيد قطب تكرر معه نفس الأمر، وبغطاء ما يسمى بالقانون، وظل يتكرر الأمر، فتم قتل أكبر الرؤوس الإسلامية على مدار السنين، حتى وصلنا إلى اليوم الذي يرمي فيه أحد مشايخ وعلماء الأمة (سفر الحوالي) بفراش مرضه في المعتقل، ويعذب وهو على فراش المرض؛ لأنه قال كلمة حق أغضبت سلطانًا جائرًا، وحدث ولا حرج عن القتل البطيء في سجون مصر، وخاصة سجن العقرب سيئ السمعة، الذي مات فيه أول رئيس مدني منتخب لمصر الدكتور محمد مرسي، والبطل المجاهد محمد مهدي عاكف، الذي لم يسلط عليه عبد الناصر ويقتل على نفس ذات اليد، وكذلك رمز الجماعة الإسلامية الدكتور عصام دربالة، وأخيرًا وليس آخرًا الدكتور عصام العريان الذي يلمح إلى وجود شبهة جنائية في قتله.
وتتوالى الأسماء والمرشحون للقتل بالإهمال الطبي المتعمد، حيث تشير تقديرات لمنظمات حقوقية إلى أن عدد المتوفين بالإهمال الطبي في مصر تجاوز 150 سجينًا خلال السنوات الثلاث الماضية فقط، فيما يقبع بالسجون نحو ألفي سجين مصابين بأمراض مزمنة وسط أوضاع اعتقالية صعبة.
وأخشى ما أخشاه أن يقتل حازم صلاح أبو إسماعيل بالأمر الأمريكي المباشر، وينسب الموت إلى السكتة القلبية، أو الهبوط الحاد للدورة الدموية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن ما يحدث هذه الأيام من جمع عقول ومفكري الأمة وسحقهم لهو جريمة في حق الوطن قبل أن يكون في حقهم، وإن لم تقم الجماهير للذود والدفاع عن علمائها فلا خير فيها إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست