ما أنزل الله رسالته، وتحمل رسله المشقة في التبليغ، إلا ثورة على الكفر، وثورة على العبودية لغير الله.
لقد كرم الله بني أدم، فهل يجوز بعد ذاك التكريم أن يأمر بإخضاع تلك الرقاب للذل والعبودية لظالم يتجبر على عباده؟
هل من المنطق والعقل أن يأمر رب العباد عباده أن يتنازلوا عن حقوقهم التي أعطاهم إياها إرضاء لشهوة حاكم؟ ليصحح لي رجال الدين إن أخطأت.
في المواريث لا يجوز للوارث التنازل عن ميراثه إلا بعد استلامه أولًا؛ تنفيذًا وتسليمًا لشرع الله، وبعدها يفعل به ما يشاء، فكيف والحال هكذا يأمرنا الشرع نفسه بأن نسكت عن حقوقنا المنهوبة من قبل حاكم، ويأمرنا أن نرتضي المهانة والذل تعظيمًا لذاك الحاكم، أي تناقض هذا الذي خرج علينا به أدعياء الدين من علماء السلاطين؟ كيف استطاعوا أن يحرفوا كلام الله تطويعًا لهوى حكامهم.
فأصبحوا يدعون لدين مشوه لا يمت لدين الله بشيء، دين لا تستقيم معه ملة، ولا تصلح عليه أمة، ليجروا العالم الإسلامي إلى الحضيض، والتخلف، والعنصرية، والفقر، وشيوع الظلم والفساد كل هذا بسبب سدنة يلوون ألسنتهم بالكتاب ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
إن ما وصلنا له من تأخر وتخلف وظلم، ليس بسبب الدين كما يزعم أعداء الإسلام، إنما بسبب انحراف أوصياء الدين عن مبادئه ومقاصده بالتأويل الفاسد، والتحريف حتى أصبح الناس الآن على دين لا يمت للدين الذي أنزل على نبينا الكريم، مع أن كتاب الله ما زال بين أيدينا لم يرفع، ولكن حيل بيننا وبينه بتأويل الفسدة من علماء السلاطين وتفسيرهم، رغم أنه أنزل بلسان عربي مبين ميسر للذكر؛ فديننا لا يحتاج إلى مترجم ولا مفسر.
لقد فرغوا الدين من مضمونه، فأصبح دينًا لا قيمة للإنسان فيه، ولا لحريته، وحقوقه.
جعلوا منه دينًا لا يدعو إلى المساواة والعدالة، والمطالبة بالحقوق، بل يحرم تغير الواقع، ويرسخ طاعة ولي الأمر وسدنته الذين يحرفون الكلام عن مواضعه.
فتارة يخبروننا أن نصبر على الحاكم الظالم، وإن جلد ظهرك، وإن أخذ مالك، وتغافلوا وحذفوا آخر كلمة (بالحق)، تلك الكلمة التي تغير معنى الجملة كلها، بالحق أي جلدك لحد من حدود الله، إن أخذ مالك فريضة أو دية أو جزية.
ولكي يؤمنوا أنفسهم يخبروننا بأن لحوم العلماء مسمومة؛ حتى يصمت العامة عن فحش فتواهم، والله ليست لحومكم المسمومة، ولكن عقولكم وقلوبكم التي سولت لكم تحريف كلام الله عن مواضعه.
فإذا كان الله جعل دخول الدين وعبادته اختيارًا «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ».
ولكنه جعل الدخول في العدل إجبارًا فقال تعالى: «إن الله يأمر بالعدل»، فكيف بجبرون الناس على القبول بالظلم والأفظع إجبارهم على الرضا به على أنه من الإيمان، وإلا أصبحوا خوارج.
فإذا كان الخروج على الحاكم خروجًا من الدين كما تدعون، فهل خرج الحسين بن علي – رضى الله عنهما- سبط الرسول من الدين عندما خرج على يزيد بن معاوية؟
هل خرج عبد الله بن الزبير ابن ذات النطاقين، وحفيد أبي بكر، من الإسلام عندما خرج على عبد الملك بن مروان؟ ما لكم كيف تحكمون؟ ليس فقط تأولوا على الله، إنما تجاهلوا كلام الله، وتجاهلوا ترتيبه لشؤون خلقه، وهو أعلم بهم.
فأين هم من قوله تعالى: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)» (سورة النمل)
آيات نقرأها فهل تدبرناها، وإن فات علينا نحن العوام تدبر معناها، وما أوضحه رب العالمين لنا من خلال حوار دار بين حاكمة ومحكوميها، فلنا عذرنا الذي ليس بعذر أمام الله بجهلنا تفسير آياته.
لكن ما عذر شيخ الأزهر وحوارييه وسدنة الدين، الذين طالبوا الجيش بالنزول للشوارع، وتولي أمور البلاد والعباد؟
ألم تمر الآيه بهم؟ ألم يعلموا رد جنودها وقومها لها بأن القرار يكون للساسة والعقول، وليس للجند والقوة، إنما مهام الجند الأقوياء إطاعه أوامر أصحاب الرأي والحكمة، فأهل القوة وأهل البطش عملهم لا أن يقولوا آراء، ولكن أن ينفذوا ما ينتهي إليه أصحاب الآراء.
لماذا؟
لأن ما يملكوه من قوة وبطش يجعلهم يحكمون على الأمور من منطلق القوة لا العقل، بينما الأمور تحتاج روية وتفكير من كافة الاتجاهات.
«قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ».
الشيخ الشعراوي من تفسير سورة النمل
إنما هكذا تدار الأمور من علماء السلطان، يغضون البصر عما يريد سيدهم، متلاعبين بالعقول تحت شعار يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست